في كتابه «اللا منتمي» 1956 قرأ كولن ولسون فكرة الإبداع، على أنها، إما نتاج بحث عن الذات يترسخ في الكتابة، من خلال الأفكار الجديدة والقدرة على التعبير عنها. أو أنها خواء روحي دفع صاحبه بنفس تواقة للحرية إلى الانسلاخ عن الواقع الذي يؤسس قيم المجتمع والركض وراء فضاءات روحية أشمل وأوسع (اعتبر بعض النقاد وقراء هذا الكتاب أنه محاولة لنقد الدين السائد ودعوة للتفلت من سياجه إلى فضاء الحرية الأرحب) يأخذ صاحبه إلى مصافِ الذات ليحلق بها ومعها دون مساعدة وسائطية من أحد. يمكن هنا أن نفهم، أن تعبير النقاد (الوسائطية) لم يأتِ من فراغ، إنما كان مبنياً على أساس وجود المسيحية كدين للمجتمع وما تعتمده من فرض وسيط بين الإنسان والله هو رجل الدين. وما ينطبق بالتالي على المسيحية لا يمكنه أن ينطبق على غيرها من الأديان كالإسلام الذي يعتمد في علاقة العبد بربه على (الحرية) غير المتفلتة من الضوابط.
ثمة بعد آخر في كتاب ولسون، يتعلق بالنماذج التي اختارها، قارئاً لنتاجها على ضوء النقد التحليلي العميق لمسارها في المجالات الإبداعية، هو البعد المعولم لهذه النماذج، وبالتالي عدم إتكازها على تمثيل مجتمعها وقوميتها. يتأكدُ ذلك من خلال النماذج التي اعتمدها ولسون في كتابه، وهي لمجموعة من الكتاب والفنانين والفلاسفة تجاوزوا، فعلياً، من خلال أعمالهم الأدبية والفكرية والفنية، هوياتهم القطرية والثقافية، وأصبحوا، جميعهم، رموزاً عالمية، لا يمكن تأطيرها بحدود جغرافية، رغم أنهم جميعاً عاشوا أو كانوا في أزمنة كان يعمها الازدهار الاستعماري وصعود القوى القومية، حيث كان من الأسهل على هؤلاء الانتماء كما غيرهم إلى واحدة من هذه القوى والتخلص من عناء الكوابيس التي تفرضها التحديات العميقة للسائد. غير أن ما يتجاوز هذا، يبدو أنه يظهر على مهل منذ سنوات، في العالم العربي. ما يجعلنا نطرح السؤال المقلق حول انتماء الأدب نفسه. هل هو إلى اللغة التي يكتب بها؟ اللغة الأولى أو الأصلية؟ أم إلى الوطن المحدد بحدود جغرافية وببطاقة هوية وجواز سفر؟ أم إلى المجتمع الذي أساساً من كتب الأدب، كان الأدب جواز خروجه الرمزي من هذا المجتمع إلى ما يتجاوزه بكثير، ولنقل مبدئياً إلى المخيلة.
برزت في السنوات الأخيرة في العالم العربي، تصنيفات، لا تمت إلى التراث الثقافي العربي بصلة قرابة من أي نوع. وهي تصنيفات، أغلبها، قطري، أو جندري، ولدت مع ولادة التكتلات الوطنية من جهة، وكذلك الفرز الجنسي بين المجتمعات، التي تتعاطى مع إنتاج المرأة، مثلاً، باعتباره عملاً لا هوية أدبية له، قدر ما له هوية تتعلق بالجنس، الذي يفترض أن يشار إليه في بطاقة الهوية الشخصية، لا بالعقل والمخيلة والجسد. حتى يخيل عند قراءة المواد النقدية المخصصة لإنتاج المرأة، أن الناقد يقرأ المرأة لا النص ما يشكل انزياحا تقنياً للقراءة لا يدقق في ماهية النص قدر ما يعكس حضور المرأة كجنس بشري. إلى جانب مصطلحات عدة مثل عنوان هذا المقال، الرواية السعودية.
والحال أن هذه التسمية، يمكنها أن تنطبق على الثقافة الوطنية، عند ثقافات يعبر عنها بلغة واحدة، كالثقافة الفرنسية أو الألمانية أو الروسية أو اليابانية. وهي ثقافات تنتج أدباً يكتب بلغة حصرية. وهي حين يكتبها شخص لا ينتمي إلى الثقافة بل إلى اللغة يشار إليه بالتسمية التي تحدد موقعه من هذه الثقافة، في دلالة لا تخلو من عنصرية قومية في كثير من الأحيان. مثلما يحدث في الثقافة الفرنسية أو الألمانية. لكن هذه الإشارة، لا تنسحب على عمل المرأة إذ إن هذه الثقافات أنتجت مساواة، دقيقة، بين المرأة والرجل، أصبحت مع الوقت، تقض مضاجع الرجل. الذي وإن كان ينسجم مع التقاليد الاجتماعية، السائدة، التي أرسيت عبر نضال اجتماعي طويل، فترسخت قانونياً وسياسياً، إلا أن الغريزة تظهر بين وقت وآخر لدى بعض الرجال، حيث يتم التعبير عنها دون خرق قانوني واحد.
طوال سنوات، وهذا الكليشيه «الرواية السعودية» يستفزني بنفس القدر التي يستفزني إطلاق التسميات القطرية على الأدب. ممكن أن نفهم أن يقال هذا كاتب سعودي وهذا لبناني وذاك فلسطيني والآخر كويتي أو يمني... إلخ. لكن هذا يعنيه هو كفرد وليس بالضرورة يجب أن يعني ما يكتبه. إذ يفترض، والحال هنا في الغرب، أن يسمى الأدب باللغة التي كتب بها، والتي تشير إلى ثقافة معينة، أي أن هذه رواية عربية أو شعراً عربياً دون النظر إلى المسألة القطرية باعتبارها أمراً حتمياً يمكن له أن يرخي بظلال هويته على الأدب. كما أن هذه التسميات ظالمة للأدب نفسه وللثقافة التي جاء منها هذا الأدب. بنفس القدر من الظلم الذي يحمله كليشيه «الأدب النسائي» إذ غالباً ما تضمر هذه التسمية، في مجتمعات ذكورية نظرة دونية إلى هذا الأدب، هذا في حال تمت تسميته أدباً. حيث إن البعض، لا يصل إلى تسميته بالأدب. قرأت منذ أن وعيت القراءة مئات المقالات التي تطلق عليها تسمية «الكتابة النسائية» في محاولة هدفها النيل من قدرة المرأة، وكذلك الحط من إمكاناتها، وأنها مهما حاولت، فلن تتمكن من كتابة الأدب. مع العلم أننا في عالم الأدب لا يمكن أن نلحظ الفوارق الفعلية بين الأدب الذي تكتبه المرأة ويكتبه الرجل. القدرة على اكتشاف هذا ضرب من المستحيل، خصوصاً حين تكتب امرأة ما باسم ذكوري كما فعلت ذات يوم جورج صاند، حين كان المجتمع الفرنسي ذكورياً صافياً.
يبدو مصطلح «الرواية السعودية» ظالماً للأدب السعودي الحديث والقديم. فالرواية، وهي النمط المنتشر حالياً في الأدب العربي والسعودي جزء منه (نصٌ ينتمي للمستقبل) حسب ما يشير الباحث حسن النعيمي في مداخلة نقدية ألقاها في ملتقى الرواية في مدينة الباحة. وهو إذ يرفع من شأن الرواية، باعتبارها النوع الأدبي الأشد التصاقا بالمتغيرات التي شهدها المجتمع السعودية منذ نشأة الدولة المدنية في الثلاثينيات. يؤكد، بما لا يترك مجالاً للتكهنات أن هذا النص يتخطى الإطار الوطني - الجغرافي ويرتفع فوقه بحيث تكون اللغة هي هويته ومحركه وجذره الثقافي.
لا يمكن، والحال هذا، إطلاق تسميات عشوائية على الأدب. حيث الانتماء إلى البعد الإنساني للأدب أهم بكثير من الشعارات الوطنية، التي ليست سيئة إن أخذت وحدها دون حشرها والأدب في خانة واحدة. أقرأ عادل الحوشان بالعربية وأقول أنه كاتب عربي، ولو لم أكن أعرف جنسيته، فإن روايته «مساء يصعد الدرج» التي سأتناولها في قراءة مستقلة، تشير إلى أن موقع أحداثها يتم في مدينة الرياض. في الوقت نفسه الذي أقرأ فيه رواية محمد حسن علوان الأخيرة التي تتوزع أحداثها بين الولايات المتحدة الأمريكية والرياض أيضاً. ولا يشير هذا إلى أنها رواية سعودية، إذ لو كانت الأحداث تجري فقط في الولايات المتحدة ماذا كان يمكن أن تسمى وإلى أي تصنيف شعاراتي تنتمي؟ وفي حال صحة التسمية يمكن مثلا تصنيف روايات رجاء عالم أنها روايات سعودية - مكيّة نسبة إلى بلد الكاتبة ومدينتها. وفي مقلب آخر، كيف يمكن تصنيف ما يكتبه سليم بركات الكاتب الكردي الذي يكتب بالعربية ويعرف عنه في الغرب أنه أديب عربي؟
يبدو لي، أن من أطلق هذه التسمية، لم ينتبه، إلى أن العربي جميعهم يكتبون بالعربية حتى القوميات الأخرى، تلك القوميات القديمة، التي اندثرت لغاتها وحلت محلها العربية كلغة للكتابة وليس للتخاطب. كما أنه لم ينتبه، إلى أن هذا التصنيف أو التسمية، لا يمكن له أن يمرَ على جثة الثقافة العربية التي لم تمت بعد. وربما انتبه أو لم ينتبه، إلى أن هذا المصطلح، ينطلق من تفسير عنصري، غالباً، ما تم تناول النتاج الأدبي السعودي من خلاله، خصوصاً، وأن هذا الجنس الأدبي، الذي ازدهر مؤخراً في المملكة، يعتبر جديداً وطارئاً في الأدب العربي الحديث الذي بدأت الرواية تأخذ مكانها الفعلي فيه منذ الخمسينات.
في القطار الذي أخذني من شمال ألمانيا إلى الدانمرك قبل سنوات، كان الشاب الذي يجلس في مقعد مجاور لي يقرأ رواية محمود تراوري (ميمونة) التي تدور أحداثها في مكة على ما أذكر ولم يكن عربياً. ما جعلني بسبب طول المسافة والضجر والبرد الذي كان القطار يسير في هواءه أن أتعرف إليه. وبعد حديث طويل معه، اكتشفت أنه طالب في الدراسات الشرقية في جامعة برلين الحرة ولا يعرف من الكاتب سوى أن كتابه مكتوب بالعربية وهكذا يتعرف هو إلى الثقافة العربية.
باريس