ب - اللغة تعترف بالجنون:
تعترف الثقافة العربية (عبر مؤسسة اللغة) بالجنون كوجود يحتل أو يشغل حيزًا من الإدراك.
إذ إن منح الشيء اسمًا (= الجنون) وتسمية المصاب به (= مجنونًا) هو إدراك له، واعتراف بهوية مستقلة، تستدعي الإعلان عن وجوده بالتسمية، غير أن تسمية الشيء هي في الحقيقة ترميز له، كما أسلفنا! إذا ما تتبعنا هذا الوضع اللغوي لنستمد منه استقبال اللغة للجنون وللمصاب به؛ فإننا نقف على حقل لغوي واسع جدًّا، وغني جدًّا بمختلف الدّوال، وصلت بحسب إحصاء بعض المهتمين إلى نحو من ثمانين اسمًا، تحيل إلى صورٍ متباينة من الاضطراب والخلل والشذوذ، يمثلها مصطلح «الجنون» كـ»عَلَمٍ» يجمع صورًا مختلفة ومضطربة، متصلة ومنفصلة؛ لطائفة من الظواهر التي يصاب الإنسان والحيوان بها على حدّ سواء.
وفي تعدد المفردات/الأسماء دلالة أيضًا على الثراء المعرفي- الاجتماعي على صعيدي:
- المراقبة لمظاهر الاضطراب والانحراف عن السمت العام المألوف.
- القدرة على الكشف عن التباينات الدقيقة داخل الحقل الدلالي الواحد، وتوزيع هذا الوعي على أسماء، ينال كل منها وصفًا بحسب تصوّر الواضع/ المستخدم اللغوي = الثقافي تلك الألفاظ المستعملة في هذا الحقل، والتي يُنظر إليها- في بعض الأحيان- بصفتها مترادفات تنوب في الدلالة على شيء واحد، وإن كان -بحسب ما يعتقد الباحث - لا مجال للقول بالتناوب إلا مع الترخص! أو مع الاستعارة اللفظية؛ إذ إن تأملها والتدقيق في كل دال يقود إلى الوقوف على رغبة في تلمس وصف يختلف شيئاً قليلاً أو كثيرًا عن الألفاظ الأخر؛ ومع هذا فهي جميعًا تشترك في دلالتها على الانفصال عن السمت الاجتماعي المألوف، حتى في الألفاظ الدالة على الجنون التي يوصف بها الحيوان، فإنه ينظر فيها إلى سلوكه المخالف لجماعته.
ولذلك يتشرب الاسم - بدرجات متفاوتة- معنى: العزل والنبذ، لأن الوعي اللغوي يتشكل ضمن «نظام اجتماعي».
والظاهرة الاجتماعية تمتاز - كما يقرر علماء الاجتماع- «بأنها عامة ومنتشرة...
وهي تظهر في صورة واحدة إلى حدّ ما، وتُكرَّر فترة طويلة من الزمن».
وتأخذ «صفة الجبر والإلزام، أي أنها تفرض نفسها على الأفراد؛ ولا يسع هؤلاء أن يخالفوها، ومن يحاول أن يخرج عمّا يرسمه المجتمع من حدود وأوضاع، يقابل في هذا الصدد بمقاومة وعنف».
هذا الوعي المتأثر بالقوة الاجتماعية يسقطه الإنسان على ما يدخل ضمن مداركه؛ مثل ما حوله من الموجودات في علاقاتها بأمثالها؛ سواء أكانت تلك الكائنات إنسانًا أو حيوانًا أو حتى جمادًا.
إذ «تنطوي كل أفكار الصحة والمرض - سواء في ذلك المحدود منها أو الأكثر عمومية- على مفهوم السلوك السوي والملاءمة المعيارية».
ولذلك نجد الأسماء التي تقع ضمن حقل الجنون تطلق على الإنسان، وعلى الحيوان والنبات، وعلى الجماد (ما لا حياة فيه)! بالنظر إلى العلاقة بين أفرادها مع المجموع (= مخالفة الفرد للجماعة).
ويمكن أن نسوق - إشارة- بعض نماذج لذلك؛ فمثلاً: العرب تقول: شاة ثولاء، أي: مجنونة، والثَّوْلُ: جنون يصيب الشاة فلا تتبع الغنم، وتستدير في مرتعها.
وتوصف الإبل بالهيام: وهو جنون يصيبها فيدع البعير أو الجمل المصاب سائر الإبل ويذهب على وجهه ولا يرعى.
والرمل الهيام: الرمل الدقاق اليابس، الذي لا يستمسك ببعضه فكأنه لا يستجمع.
ويقولون: بعير مذبوبٌ: أي: أصابه الذُّباب، وهو جنون يصيب الإبل خاصة، يجعله لا يقرّ في مكان واحد.
ويقولون: جُنَّ النبات إذا التف وطال وخرج زهره فكأنه فارق ما كان عليه غالب السنة، ونخلة مجنونة إذا فاقت ما حولها وكانت في غاية الطول، وجنت الأرض إذا كانت ممرعة معشبة لم يرعها أحد كغيرها، وأرضٌ مُتَجَنِّنَةٌ: كثر عشبها حتّى ذهب كل مذهب..? واللغة تقسم هذا الحقل الواسع، إلى مسردين عامين متجاورين، يقوم على كل مسرد منهما اسم كالعلم الجامع لما تحته من ألفاظ، وهذان الاسمان هما «الجنون» و»الحمق».
حيث تفرق اللغة داخل هذا الحقل بين مظهرين للاختلاف؛ أحدهما: الاختلاف داخل النظام (الكساد/ الجهل- الحمق)، والآخر الاختلاف خارج النظام (الاستتار/ المغايرة/ الانقطاع - الجنون).
ومن خلال: هذا التقسيم إلى مسردين مستقلين، وبواسطة تلك الأسماء: صيغًا ودلالةً، تسرب مؤسسة اللغة، إلى المستخدمين: معنى بل وعيًا له أثره البالغ في التعامل مع ظاهرتي «الجنون» و»الحمق»، اللتين تتجاوران تحت حقل واحد، ولكنهما تتفارقان لتعطيا المستخدم الانطباع بالاختلاف والتباين؛ منذ لحظة الوعي باللغة (الاتصال بالنظام الثقافي- الاجتماعي).
ومن ثمّ تجعل هذا الاستعمال قالباً إدراكيًّا للفهم وموجهًا للنظر؛ فالأسماء غير محايدة! لأنها- كما يصفها بيير بورديو: «ملغومةٌ بنعوتٍ ضمنيّةٍ، والأفعال تنطوي على أوصافٍ صامتةٍ تميل إلى التأييد والاستنكار، وإلى إقرار الوجود والدوام، أو إلى الخلع والطعن ونزع الاعتبار».
رئيس نادي أبها الأدبي