تناديت مع بعضهم بشأن حواراتنا في وسائل إعلامنا ومجالسنا، وفي فضاءات الإعلام الجديد، تويتر وفيسبوك، ومناشط التواصل الإلكتروني الواسعة لدى جيل الشباب على وجه الخصوص؛ وشاهدت أمامي في مكتبتي بعضاً من الكتب التي تحمل عناوين الحوار في الرف الخاص بالثقافة التفاعلية. وعندما تصفحت بعضها التي تتناول الحوار في الإسلام، وقضايا الحوار في الخطاب، والحوار بين الحضارات؛ وجدت أن عالماً مختلفاً ومتخيلاً نتقمصه غالباً عندما نكتب للآخرين، بينما الواقع شيء آخر مختلف جداً. فالحوار في ثقافتنا القديمة أصبح هو «الجدل»، وصار «علم الحوار»، واتصل «بعلم الكلام». بل إن المجادلة التي وردت في القرآن أصبحت حواراً، مع أنها تعني في الغالب «المحادة» و»المناكفة»، أو «المفاصلة» (باللغة الشعبية اليوم).
وكنت قد تأملت قبل ذلك فيما يسهم به أغلب مشاركينا في شبكات التواصل، وفي تويتر على وجه الخصوص، بجدال عقيم، وتعصب مقيت يسمونه «تحاوراً». فيكون بعضهم مشاركاً في موضوعات لا يعلم عنها إلا عنوانها، إما للمشاركة فقط، أو مناصرة لأحد أصحاب الأدلجة، وأخذ الناس بالصوت. وفي المقابل يوجد أناس يقرأون، وهم صامتون، وبعضهم حتى يتخذ «بيضة تويتر» رمزاً له؛ وأذكر أن أحد المرموقين، ومن توقعت بأن لا يضيع وقته في متابعة الناس فقط، قد ذكر لي بأنه يقرأ لي، ويتابعني في تويتر، لكنه كما قال نصاً: تحت رمز تويتر «المعمى». ونقل لي شخص ثانٍ أنه يتابعني ولكنه «متحجب» (يقصد برمز البيضة). فهناك إذاً من يثرثرون، ويطيرون في العجة، وهناك من يراقبون صامتين، ولا ينبسون ببنت شفة. فهل حوّل السعوديون تويتر إلى حوارات من طرف واحد؟ أم إن هذا هو فهمهم للحوار؟
قبل أن تصفوني بالتزمت، أو الحدة في الأحكام، انظروا في وضع مجتمع يأتيك فيه أحدهم، وأنت تتواصل مع مشتركين معك في حوار (تقبلهم ويقبلونك)؛ فإذا به يدخل عرضاً، ليسألك، وأنت لا تعرفه، ولم تشركه في حوار، ولم تضفه في قائمة، ولم يحدد مواقف له مما يقال أو يبين أنه عرف طبيعة ما يقال... كيف تقولون كذا؟ من أنت حتى...؟ إلى آخر تلك الخزعبلات الحوارية التي تجعل المرء يشك أنه أمام مرضى نفسيين، أو أشخاص متوترين على أقل تقدير.
وقد ربطت بين تلك الحالات المستغربة، وما سبق أن قرأته عن قبائل الدنكا، الذين يصنعون لهم عالماً أوحد معروفاً لهم، بأنهم يلتقون أرواحاً من أنواع مختلفة، يطلقون عليهم اسماً عاماً هو جوك Jok. وتلك الأرواح تمثل القوى غير المعروفة، وينظرون إليها بوصفها أرفع شأناً في سلم الوجود، فهم أرقى من البشر، ومن الكائنات الأرضية الأخرى، وتعمل هذه القوى فيما وراء الزمان والمكان بوصفهما بعدين يحددان نشاط الإنسان، ولكن ليس متصوراً أنها تشكل «عالم أرواح» مستقلاً خاصاً بها. وتهتم هذه القوى بشعب الدنكا باعتبارها قوى فوق بشرية، تشارك في الحياة البشرية، وغالباً ما تؤثر في الناس تأثيرات ضارة أو نافعة، وتظهر عند تفسير الوقائع والأحداث. فيقسم شعب الدنكا عالمه الأوسع إلى «عالم البشر» و»عالم القوى»؛ وهو ما يعني تقسيم الأحداث إلى نوعين. والقارئ الكريم سيعرف نتيجة هذا التقسيم في مدى تفسير كل من هذين النوعين، وتقبّل حدوث أحدهما دون تقبل الآخر.
أما في حالتنا المحلية، فإن القياس يعني تقبل ما يجري على ألسنة بعضنا، ولو كان هراء، وعدم التفكير في ما يقوله النوع الثاني مجرد تفكير. فهل الفئة الأولى تشبه «عالم القوى» عند قبائل الدنكا، بينما ينتمي بقية المتحاورين إلى «عالم البشر» الذي لا يقبل منه صرفاً ولا عدلاً؟
- الرياض