* غالباً تكون القراءات مربكةً لمن يحاول ارتكابها، إذ تعتمد في معظمها على الانطباع الذي يخلّفه نصٌ ما في نفس قارئه، بغضّ النظر عن المصطلحات أو النظريات النقدية، والتي تبدأ في أساسها من أثرٍ يتركه النص، وربما التقى بالحالة التي كانت لدى المبدع حين أبدع نصه، غير أن ذلك لا يعني تطابق النص والقراءة تطابق الأصل والصورة، ولا أفترض أن أكون كمن قيل فيه “سلوه فهو أعلم بشعري مني”!، هي إذاً قراءة لقارئة تفترض أنها تتذوق الشعر.
* النص في مجمله مثيرٌ للجدل والدهشة في آنٍ معاً، بدءاً بالعنوان “الذي يعلو النص ويمنحه النور اللازم لتتبّعه” كما يرى جاك دريدا، فقد جعل الشاعر من نصه أغنيةً يُسمعها لضده، أغنيةً تتباين فيها النبرات بحيث تعلو تارةً - دون ضجيجٍ - بفخامةٍ، وتهمس تارةً أخرى - دون انكسارٍ- بعذوبة.
*الحرف هنا غضٌ أخضر لكنه يغدو يقيناً لا يحتمل الشكّ، وبخاصةٍ حين يعلن الشاعر عدم اكتراثه بما يُقال إذ لاقى ما لاقى بسبب صمته، ومع ذلك يمنح الضدَ مساحاتٍ يتشكّل بها باتساع فيصير مديةً أو قبضة تغتال وتستلذّ الأذى والدم، أو بدراً منيراً “للصوص” فقط، والجميل أنه حتى هذه الخيارات المقدَّمة للضد تتحوّل إلى أضدادٍ - إن صح التعبير - في ذاتها، فالنور رفيقٌ لنفوسٍ معتمةٍ، والحرف لا يعرف من اللغة إلا الشتم، ولا يزال باب الاحتمالات مفتوحاً:
وإلا..فكنْ بدراً تجاوز حدّه
فضوّأ من درب اللصوص المعتّما
وكنْ أحرفَ الفوضى، وكنْ ثغرَ شاتمٍ
وإن آثر الحسنى، فكنْ منه أشتما!
* ينتقل النص إلى مرحلة “النتائج” التي ستتمخّض عنها الاحتمالات التي يعتنقها الضد، فحيناً يكون اللحن المطرِب وحيناً الحلم والنبوءة، والأبجدية التي ليس كمثلها، وهنا تحديداً نجد ضداً آخر يطل بقامته، فبعد أن كانتِ الأبيات السابقة عالية النبرة بغضبٍ وتحدٍ، تخفت لتغدوَ همساً رائقاً يتيح التشكل على هيئة بلسمٍ وعذره في ذلك أنه هنا يحاور الروحَ:
وإلا أكنْ غيماً يسقّيك هاتناً
وإن شحّ حسبي أن تراه مفيّما
وإلا أكنْ زريابَ روحكَ مطرباً
وإن شئتَ صيّرتَ الغناءَ مكلثما
* ينبني النص من أوله إلى نهايته تقريباً على الصيغة الفعلية التي تراوحت بين فعل الأمر وأفعال الشرط أو جواب الطلب، بما يناسب الخيارات المتاحة ليتصوّر بها الضد العتيد! وهو ما منح النص حركيةً، زادتها الأفعال المضارعة حيويةً لترسم صورةً حيةً نابضةً للنقيضين أو الضدّين الندّين، والأمر يخرج بمضمونه عن الوجوب والإلزام إلى الالتماس الذي يعني الطلب من الندّ، لكنه في حقيقة الأمر ليس التماساً، هو أقرب ما يكون إلى التحدّي منطلقه اعتدادٌ واضحٌ بالذات:
وأرسمَ وحدي لوحةً عسجديّةً
تفيضُ على يُبس المفاوز أنعُما
ولم أرضَ حلمَ الغصن إذ بات نادياً
وأقصى مناهُ أن يصيرَ سلّما
* النصّ حافلٌ بالدلالات، باذخُ اللغة، وارفُ الظلال التي تمنح قارئه برداً وسلاماً، وبأنه “ينسي ميراثَ الكراهة كلما..”، فقد حاور الروح وأشهر بياضَه عياناً برغم كل السواد المحيط الخانق وكاد الحُسن فيه أن يتكلما، وإن كان غالب الصبرَ فقد غالب المتنبي قبله الشوقَ وما أظن أحداً منهما أفلح أو نال الغلبة! كان لي وقفةٌ مع هذين الضدين “أو مجموعة الأضداد” منذ نشر القصيدة فالضد يظهر حسنَه الضد، وما زال البيت الأخير مدوّياً كأنما “تَداوَلَ سَمْعَ المَرْءِ أنْمُلُهُ العَشرُ”.
وحسبيَ في العصر الأنانيّ أنني
إذا ما وردْتُ الماءَ أستأذنُ الظما
- القاهرة