استكمالاً لمنهج العدل في معالجة المناهج النقدية الحديثة يأتي هذا الجزء من المقال ليكشف عن بعض الجوانب الإيجابية لبقية المناهج التي يسميها المتخصصون مناهج النقد الحداثي وما بعد الحداثي، وأبدأ بالمنهج الشكلاني الذي يرى أن القيمة الحقيقية للعمل الأدبي تتبلور في العناصر التي يصاغ بها، والأصالة التي يتميز بها أسلوبه، ومعلوم أن هذا المنهج عام يستظل تحته مجموعة من المناهج النقدية التي تتجه صوب الاهتمام بالشكل، وتعد الأسلوب هو اللبنة الأهم والأساس في أي عمل أدبي.
وإحقاقا للحق فإن الشكل وطريقة الأسلوب التي يصاغ بها الخطاب الإبداعي على درجة كبيرة من الأهمية، صحيح أن هذه المناهج بالغت في هذه الأهمية وألغت ما سواها، غير أنه يبقى للشكل والأسلوب دوره الأساس في قيمة هذا العمل، بل إن الشكل هو العلامة الفارقة بين العمل الأدبي وغيره من أنماط الكلام العادية، ولهذا فالواجب أن يكون الناقد على وعي بهذه الأهمية الكبرى للشكل، وأن يكون نقده متوجهاً إليه بالدرجة الأولى، وألا يكون انشغاله منصباً على الأمور الخارجية، أي ألا يكون مبالغاً في العناية بخارج النص أكثر من داخله، كما فعلت المناهج النقدية التقليدية التي تحدثتُ عنها في الجزء الماضي. ومما يجب الإشارة إليه هنا هو أن المناهج المتفرعة من المنهج الشكلاني قد جاءت بوصفها ردة فعل للمناهج التقليدية التي بالغت في اهتمامها بالمؤلف والملابسات الخارجية للنص مما يتصل بقضايا التاريخ والاجتماع والنفس، وأهملت الشكل والأسلوب، ولهذا فإن اهتمام هذه المناهج بالشكل جاء مفهوما ومقبولا في بداية الأمر، لتنقذ الأعمال الأدبية من الغرق في هذه الملابسات الخارجية، وتحاول إعادة الاعتبار إلى جوهر الأدب الذي يتمثل في البنية اللغوية والشكل التعبيري، فهذه الأمور هي التي تميزه عن لغة الحياة العادية، وهي الحد الفاصل الذي يدخل الكلام من نمطه العادي إلى جنسه الأدبي والإبداعي.
ولهذه الأسباب يرى (تزفتان تودوروف) أن هذه الأهمية التي يحتلها الشكل في العمل الأدبي هي التي دفعت النقاد والباحثين لفترة طويلة إلى الحديث عن الأثر الكبير الذي تؤديه اللغة في العمل الأدبي، بل إن حقلا أكاديميا بكامله -وهو الأسلوبية- تم إيجاده على الحدود المشتركة للدراسات الأدبية وعلم اللغة، وإن طروحات كثيرة كتبت عن لغة الكاتب أو ذاك.
وتنسحب هذه الإيجابيات على الشكلانية الروسية والتشيكية التي يسجل لها عنايتها البالغة بلغة الأدب، والسعي إلى إيجاد طبقات التمايز الفاصلة بينها وبين اللغة الحياتية العادية، والسعي إلى الوقوف عند الخصائص المميزة لهذه اللغة الفنية، ومحاولة استكناه الملامح والسمات التي تكونها، كل ذلك يتم من خلال البحث العلمي المتخصص المنظم، والإفصاح عن كثير من أسرارها وجمالياتها، كما أنها تميزت بالوقوف في وجه ذلك الإسراف المخل بالقضايا الخارجية للنص الأدبي الذي وقعت فيه المناهج التقليدية، ولم تهتم إلا بالنادر من فنيته وأدبيته وشعريته كما يرى أصحاب هذه المناهج الشكلية.
إن مما يحسب لهذه المناهج الشكلية السعي إلى رد الاعتبار إلى لغة الأدب، ومحاولة إنشاء علم خاص للدراسات الأدبية يتمتع بنوع من الاستقلالية، والعزم على جعل مقاربة النصوص الأدبية ترتقي دقة وتتميز منهجيا، ولذا يرى (جاكوبسن) أن بعض المؤرخين الأدبيين تحولوا إلى ممارسين لما أسماه بفروع شعبية قائمة على علم النفس والسياسة والفلسفة، وغدا الأدب غير قادر على تقديم أكثر من بينات ثانوية أو ناقصة.
هذه هي الإيجابية الكبرى والمهمة في المنهج الشكلاني وما يتفرع عنه من مناهج تستظل في ظلاله، فإعادة الهيبة للنص الأدبي من خلال التركيز على لغته وأسلوبه وصياغته وطريقة التعبير فيه قضية مهمة تحسب لهذه المناهج، رغم أنها بالغت وتطرفت في هذا التركيز، إلا أن أهميته الكبرى وكون رؤيتهم جاءت كردة فعل للمناهج التقليدية قد تخفف قليلا من الانحراف الذي وقع أصحابها فيه، ولعل الحديث في الجزء القادم يكون أكثر خصوصية عن إيجابيات أبرز المناهج النقدية الحداثية وما بعد الحداثية التي تصب في بحر المنهج الشكلاني.
omar1401@gmail.com
- الرياض