لست في عمر يجعلني أحيط معرفة بالعم حمد بن عبدالمحسن التويجري - رحمه الله - وكل ما اختزنته في ذاكرتي عنه هو ما سمعته من والدي - غفر الله لهما - إذ كان والدي أحمد بن محمد الرشيد من أقرب الناس إليه، نظراً لتقاربهما عمراً، وفكراً، وموطناً، وكان به معجباً، وله مناصراً.. رافقه في أسفاره، وخاصة في سفره الأول من المجمعة إلى مكة المكرمة على إبلهم، وذلك بعد وفاة عبدالمحسن بن محمد التويجري والد العم حمد، إذ كان عبدالمحسن - رحمه الله - هو أمين بيت مال المجمعة وكل ما يتبعها من بلدان وقرى وهجر.. ورحلتهم تلك لتعزية الملك عبدالعزيز في وفاة صديقه عبدالمحسن، وأخذ توجيهه بأن يتولى ابنه حمد الوظيفة تلك خلفاً له.
قال والدي - ولا أنسى ذلك أبداً: حين أدينا واجب التحية والسلام للملك عبدالعزيز بعد رحلة برية دامت نحو شهر، قدمنا له واجب التعزية - استضافنا الملك في بيت خاص بنا في مكة، وصادف أن وفد إليه أمير من أمرائه في المناطق هو عبدالله بن إبراهيم العسكر - وهو من أهل المجمعة - لكنه أمير على منطقة عسير، وكانت عائلة العسكر وعائلة التويجري تتنافسان في المكانة الاجتماعية عند أهل المجمعة.. فقال الملك عبدالعزيز لهذا الأمير عبدالله العسكر: ها خصمك عبدالمحسن التويجري قد توفي، فرد العسكر قائلاً: يا جلالة الملك هذا ليس خصمي، لكنه رجل ينافسني الرجولة عن استحقاق، وأنا حين تركت المجمعة كنت مطمئناً لأن أخي عبدالمحسن التويجري فيها - وترحم العسكر على عبدالمحسن التويجري وشعر بالحزن لوفاته، وذكر مناقبه الكثيرة أمام الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه. وواصل والدي قائلاً: ونحن في البيت الذي استضافنا فيه الملك عبدالعزيز فوجئنا بعبدالله العسكر يطرق بابنا وعليه الحزن، وأخذ يعزينا - ثم جلس إلى جوار حمد التويجري، وقال: يا حمد: إن أباك أب عظيم تحمل الكثير من المسؤوليات فأداها خير أداء.. وجميع أسرتكم في منزل واحد وأنتم كثرة كثيرة - وعليك الآن مسؤولية كبيرة - هي أن تستمر هذه الأسرة كما كانت، وأن يكون دورك فيها ما كان لأبيك - رحمه الله - ومما أوصيك به: عدم الالتفات إلى القيل والقال من صغاركم، ومن بعض نسائكم المتنافسات (ضع في أذن طينة وفي الأخرى عجينة)، فأنا أؤمل فيك آمالاً كثيرة.
حقاً.. لقد كان جيلاً رائعاً بكل المعاني التي تتطلبها الرجولة، والقرابة وجمع الشمل بين أهل البيت والبلد الواحد.
نعم كانوا يتنافسون لكنه تنافس الشرفاء، الذين يريد كل واحد منهم أن يقدم لبلده أكثر.. ومع تنافسهم هذا لم يكن أحد منهم ينكر فضل الآخر، أو يقلل من قدره - ولهذا صارت المجمعة إحدى المدن البارزة الشهيرة في مملكتنا بفضل تعاون، وتكاتف، واحترام، وتنافس رجالها.
ومما أعرفه أن حمد لم يكن أقل شأناً من أبيه، فقد تحمل المسؤولية على أكمل وجه، وقام بها خير قيام.
ولأنه نجح في مهمته اختاره الملك المؤسس لمهمة أعظم.. هي أن يكون أمين بيت المال في كل منطقة القصيم، ومعروف أن منطقة القصيم بكل المقاييس من أكبر المناطق مساحة، وسكاناً، وثروة..
قدم إليها، وباعتراف الكثير ممن أعرفهم من أهلها أصبح أحد كبارهم، والمحبوب من الجميع لديهم، ومرجع المشورة والحكمة لهم.
ومما أعرفه أن والدي وهو في مرضه بسبب حمى شديدة جاءته على كبر يقول: إني لست آسفاً على هذه الدنيا وفراقها - إلا أنه لن يتاح لي أن أرى أنساً ذكرهم وأولهم حمد بن عبدالمحسن التويجري..
كان حمد - رحمه الله - معروفاً عند الجميع بالتدين الشديد، والتقوى الصادقة، وتواضعه الجم، وجوده الفياض.
حقاً.. لم أحظ بلقائه إلا مرات قليلة حين تقدم به العمر وكلها بعد عودتي من البعثة التعليمية بأمريكا.. وحين كان يتحدث أتذكر ما كان يقوله عنه والدي: من حصافة الرأي، وحسن المنطق، وحنكة التجربة، وكنت أزهو بذكره لوالدي كثيراً.. كما أني معجب بما كان بينه وبين أخويه عبدالعزيز وعبدالله من احترام متبادل، وألفة قوية - ومشورة في كل أمر، وتبجيل منقطع النظير في كل المجالس التي تجمعهم.
يعرف الجميع أن عمنا حمد كان رجلاً بارزاً من رجالات الملك عبدالعزيز، شارك في كثير من غزواته التي وحد بها المملكة، وكثير مما يحكيه لنا الرجال اليوم من قصص وأمور تتصل بوطننا وقيادته يقولون إنهم سمعوا تلك القصة من راويها الأول العم حمد.. إذ كان حاضراً فيها فجاءت روايته موثوقاً بها.. كما عرف عنه - رحمه الله - معرفته لأقدار الرجال ومكانتهم، والتفرقة بين توجهاتهم، واللمح لما في عيونهم من أقوال ورغبات، وما وراء ذلك من مواقف.
إنه رغم ما كان يسود المجالس من الحديث باللغة الدارجة كان كثيراً ما يتكلم هو بالفصحى، ويستشهد كثيراً بالقرآن الكريم والأحاديث النبوية، وبعض أقوال الحكماء والشعراء.. مما يدل على وفرة مصادر ثقافته.
لقد بلغ من شدة إعجاب الناس جميعاً به قدراً، وخلقاً، ومكانة أنه ذهب يوماً يخطب لابنه إحدى بنات رجل معروف فوافق والدها دون تردد، ولما جاء وقت عقد القران جاء معه ابنه المقصود بالزواج.. ففوجئ به والد الفتاة.. وقال لحمد.. يا أبا عبدالمحسن إنني وافقت بصدق على أنك أنت التي ستتزوجها وليس ابنك.. هكذا فهمت.. ولهذا وافقت.. حدث يدل على عظمة قدر هذا الرجل، وإكبار الناس له حتى في تقدم عمره.. وسعادتهم بالاتصال به نسباً أو صداقة.
وهناك الكثير من المواقف ما يؤكد صدق حب الناس له، ويؤكد كم كان - يرحمه الله - رجل عمل، وفكر، وأسرة، وأب.
وفي المرات القليلة التي حظيت فيها بلقائه كان يردد دائماً حاثاً لي بقوله: (يا محمد.. كان أبوك شهماً عظيماً.. رجلاً له قدره بيننا؛ فكان مثله ولا تتنازل أبداً عن سماته ومكانته). رحم الله أبا عبدالمحسن، وجزاه عن أهله وبلدته، ووطنه خير ما يجزى به الرجال النبلاء الأفاضل، الذين رعوا حقوق الله، والوطن، والأهل.