قبل يوم الخميس، السابع عشر من أبريل، رحل البطريرك في خريفه الأخير، الروائي الكولومبي الكبير غابرييل غارسيا ماركيز، عن عمر بلغ 87 عاماً، رحل الساحر في فن الرواية، بعد أن أدخل الشك في رؤوسنا، بواقعيته السحرية، ونحن لا نعرف هل مرت شخصياته فعلاً على هذا الكوكب، وهل هناك أصلاً قرية اسمها «ماكوندو»، تماماً كرحيله في شهر أبريل، شهر الأكاذيب، وكأنما يريد أن يقول لنا، بأن وجوده ورحيله يثير الشك، ويجعلنا في حيرة بين التصديق والتكذيب!
هكذا ورطنا هذا الساحر، وجعلنا نعرف الجدة أورسولا في رائعته مائة عام من العزلة، أكثر مما نعرف جداتنا، نتمنى أن نخبر سانتياغو نصار عما ينتظره من مخطط لقتله، في روايته «أحداث موت معلن»، نقف مع الأطفال والنساء، يحفّنا الفضول، حول جسد أجمل رجل غريق في العالم، وقد لفظه الشاطئ أمام أبصارنا ودهشتنا، لندرك فيما بعد أن هذا الغريق، إنما هو الساحر الذي طيّرت عصاه الكلمات والعبارات الملتبسة، والأحداث المضفورة ببراعة، والوقائع المتخيلة فوق الواقع الذي نعرفه!
ما معنى أن ترتفع الفتاة وتطير ببطء، وهي تتهيأ لنشر الغسيل، ولم يعد لها أثر في صفحات الرواية فيما بعد؟.. هل هربت؟.. أم قتلت لقضية شرف؟.. لماذا خدعنا ماركيز إلى هذا الحد، حتى في حواراته حينما سأل عن هذا الجزء، قال بأنه سمع ذلك، أي أنه سمع عن فتاة رأوها تطير في السماء ثم تختفي، فهو لم يبحث عن تبرير تلك الأسطورة العجيبة، بل نقلها لنا بكل خبث وإشارات الروائي الذكية!
كلما قرأت روايات ماركيز، أدركت أن من شروط الرواية أن يتمتع كاتبها بقدر عال من الذكاء، متى تنصت، ومتى تتدخل، متى تفتح النافذة وتترك مخيلتك تهرب منها، ومتى تهرب من الصفحات تاركاً شخصياتك تعمل بدهاء وضغينة وشغف، هكذا يمتلك الروائي الذكاء والحدس، كي يصنع أدباً لافتاً.
هناك روائيون كان معطف «نوبل» فضفاضاً على أدبهم، وهناك من يضيق هذا المعطف بأدبهم الكبير، ولعل ماركيز كان من الفئة الأخيرة، فهو من تشرفت الجائزة باسمه، إذ أضاف إلى الأدب العالمي، وإلى الرواية تحديداً، خصوصاً أنه يدرك أنه لم يعش إلا ليروي، وذلك في سيرته الأخيرة، في كتابيه «عشتُ لأروي».
هذا الروائي الذي خلّف لنا آلاف الصفحات المضيئة، وعشرات الآلاف من المقتطفات التي تستحق أن تكتب بمداد من ذهب، وصاحب «الحب في زمن الكوليرا»، والشاهد على قصة حب حقيقية ومدهشة، فمن الطبيعي أن يدرّسنا حول ماهية الحب، بقوله: يُخطئ الناس عندما يعتقدون أنهم لن يكونوا عشاقاً متى شاخوا، دون أن يدركوا أنهم يشيخون إذا توقفوا عن العشق!
هكذا ينظر هذا العاشق الساحر إلى الحب، وإلى الحياة، بعد أن ترك لنا أعمالاً خالدة، يكفي قراءة بعضها حتى ندرك أن هذا الفنان يكتب كما لو كان يرقص.