كثير من الدول والشعوب تفتخر بحضاراتها، وتتخذ من أسماء أدبائها وفنانيها أيقونة راسخة تزهو بها طوال قرون أمام الشعوب الأخرى، كما تفعل بريطانيا مع وليام شكسبير، وأمريكا مع هيمنجواي، وروسيا مع دوستويفسكي، والنمسا مع جوستاف كليمت، حتَّى بعض الدول العربيَّة، كمصر وتونس، حيث تزهو الأولى بنجيب محفوظ، والثانية بأبي القاسم الشابي.
في السويد، يفتخر السويديون حكومة وشعبًا، بكاتبة الأطفال استريد لينجرين، ويعتبرونها رمزًا كبيرًا، وعند رحيلها عام 2002 قرّرت الحكومة السويدية إطلاق جائزة كبرى باسمها، يتم منحها لأحد الأدباء في العالم تزامنًا مع ذكرى رحيلها في الثاني من يونيو من كل عام.
هذه الجائزة التي تبلغ قيمتها خمسة ملايين كروانة سويدي، حصل عليها أدباء مختلفون من دول العالم على مدى اثني عشر عامًا، دون أن ينالها أيّ كاتب سويدي، مما جعلها موضع انتقاد من قبل السويديين، فكيف نمنح هذه الجائزة التي تحمل اسم أمنا استريد، دون أن ينالها كاتب سويدي، بالرغم من أن أدب الطفل في السويد يُعدُّ مزدهرا مقارنة بدول أوروبيَّة أخرى، حيث يوجد الكثير من الكتاب الرائعين.
هذا العام كان مختلفًا، حيث تقرَّر منح الجائزة لكاتبة الأطفال السويدية باربرا ليندجرين، ولا تربطها بصاحبة الجائزة أيّ قرابة، فهو مُجرَّد تشابه أسماء، حتَّى لا يذهب ذهن القارئ العربي بعيدًا، كما يفعل دائمًا في التشكيك بقرارات الجوائز وأهدافها.
كنت محظوظًا، ضمن أربعة صحفيين أجانب، حينما قابلت الفائزة باربرا ليندجرين، صاحبة المئة كتاب، قبل الحفل بساعات، وناقشناها على مدى ساعة كاملة حول كتابتها، وعن أدب الطفل في السويد، وعاداتها في الكتابة، وأحلامها، وغير ذلك.
حضرت باربرا يرافقها كلبها الصغير، وجلس قربها في غرفة الاجتماعات الصغيرة، وقالت: إنه لا يفارقها حتَّى في الحمام، حتَّى إنني تخيلت أن تفعلها أثناء الحفل، وتجلب كلبها الصغير معها، بحضور وريثة العرش الأميرة فيكتوريا، لكنها لحسن الحظ لم تفعل!
تحدَّثت باربرا لنا بكلِّ بساطة ووداعة سيدة في السبعين، كانت تمتلك حسًا فكاهيًّا لاذعًا، اتضح أكثر في الخطاب الذي ألقته في الحفل، وقالت: إنها لم تكسب المال مع أول كتاب، كما شأن كثير من الأدباء، لكنها بعد عدَّة كتب أصبح الأمر معقولاً، وهي لا تكتب نمط الكتابة الخيالية. فكتبها مرتبطة بالواقع، وعلى مستوى القراءة قالت: إنها لم تعد مغرمة بقراءة الروايات كما كانت تفعل من قبل، بل تركزت قراءاتها على كتب المذكرات، ومن بين الذين لا تتوقف عن قراءتهم، وتشعر أنهم موثِّرون في حياتها، نيتشه، وكافكا، وبيسوا الشاعر الأرجنتيني المعروف.
ليس لديها وقت محدد للكتابة، تقول: إنها تذهب لتكتب متى أصبحت جاهزة، وأصبح ذهنها صافيًّا، ومازالت تستخدم قلمًا من ماركة بايلوت، وتكتب بشكل يومي، ولعل أكثر الطرائف الجميلة في حديثها الصريح، هو اعترافها بأنها سرقت من الآخرين ثلاثة عناوين لكتبها، لكن الثقافة هناك تستوعب مثل هذه الطرائف والنكات الصغيرة.
أما الحفل، فقد كان رائعًا، بقاعة ضخمة وعالية جدًا، وبحضور كثيف يدخل بتذاكر مدفوعة، وينصت بشكل مذهل، حتَّى كأن ليس ثمة أحد في القاعة، تعامل الجميع باحترام شديد مع دخول الأميرة الشابة فيكتوريا لوحدها، وسلمت الجائزة للفائزة، بعدما تم تقديم فقرات غنائية لفنانة سويدية شابة، وعرض فيلم عمل لجنة التحكيم، التي ألقى رئيسها كلمة اللجنة قبل تسليم الجائزة.
يتبع...