كنت في بداياتي حين عرفته، أثناء دراستي بالجامعة، بعد أن قدمني إليه ابنه وصديقي الشاعر مازن اليحيا، الذي كان يدرس الأدب الإنجليزي بالجامعة، بينما كنت في كلية العلوم الإدارية، يجمعنا شغف الأدب، الشعر والقصة القصيرة، نتهافت على جديد الشاعر العراقي سعدي يوسف، والقاص السوري زكريا تامر، وغيرهما من الأدباء العرب!
أخذني إلى بيته، وعرّفني إلى والده الفنان التشكيلي عبد الجبار اليحيا، يرحمه الله، كان متواضعاً ومثقفاً، وظننت في البدء أنّ الفنانين التشكيليين مثقفون بالضرورة، قبل أن أخالط غيره من الفنانين الذين لا تتجاوز ثقافتهم مزج الألوان وأنواعها، كنت مصدوماً كيف لرجل في هذا العمر، ويمتلك هذه الثقافة والوعي والتواضع، يقرأ القصة القصيرة، ويبدي رأيه النقدي فيها، بل ازدادت دهشتي كيف لرجل مثقف مثله أن يقرأ لشاب مثلي، ثم تروق له إحدى قصصي القصيرة، إلى درجة أن يفكر في استلهام فكرتها في لوحة جديدة!
بعد بضع سنوات كانت مجموعتي القصصية (ظهيرة لا مشاة لها) جاهزة للنشر، وتمنيت في داخلي أن يمنحني الفنان الكبير عبد الجبار إحدى لوحاته، لتوظيفها على غلاف كتابي الأول، حدثت صديقي مازن بهذه الأمنية، ففاجأني بعدها بيومين، أنّ هذا الفنان الرائع لا يوافق على منحي لوحة من لوحاته فحسب، وإنما على استعداد لقراءة مجموعتي القصصية، ورسم لوحة خاصة لها!
أي شعور بالزهو آنذاك خالجني، كيف لا، وفنان بقامة عبد الجبار اليحيا، يرحمه الله، سيتفرّع لقراءة عملي المتواضع، ولأيام عديدة، كي يرسم لوحة خاصة لمجموعة (ظهيرة لا مشاة لها)، وهذا ما حدث، فقد ناولني لوحته الرائعة مبتسماً، وهو يسألني عن رأيي، كم كنت متواضعاً أيها الفنان الكبير، وأنت ترسم لوحة خاصة لغلاف مجموعة أولى، لشاب يتلمّس طريقه السردي!
كم فاجأني رحيلك أيها الفنان الرائد، وكم أربكني صوت ابنك وصديقي مازن، وهو يخبرني يوم الجمعة الماضية، بأنك رحلت عن عالمنا، وتركت لنا إرثاً سخياً من اللوحات الرائعة، وكم كان حزني أكبر، وأنت تقضي سنواتك الأخيرة مقاوماً المرض، وقد أصبحت يدك الراعشة عاجزة عن الإمساك بالريشة، فما أقسى أن تعيش وتفكّر، وترى اللوحة بيضاء أمامك، وتشم رائحة الزيت، لكن يدك لا تملك أن تحمل الريشة، كي تضع الفكرة الملحّة على هذا البياض، ما أقسى أن تكون عاجزاً، وكم يضيق العالم بك، وأنت الذي تنادي بأنّ على الإنسان أن يُعطي قبل أن يأخذ، ها أنت لا تشعر بالحياة، ولا بطعمها، وقد كففت عن متعتك الوحيدة والنادرة: الرسم، فأي عمل تتقنه في هذا العالم غير الرسم، وأي ذاكرة تحملها غير ذاكرة الألوان!
رحم الله الفنان عبد الجبار اليحيا، وغفر له، وأسكنه فسيح جناته.