- كتبت: كل الأدراج في غرفتي معبأة، باستثناء صدري.. فاااارغ. . الغرب «تقريبا» يستغلون كل فراغ في مساكنهم، ونحن فشل أغلبنا في سد فراغ حياته. يقولون إن حياتنا ممتلئة بالمواعيد، الأعمال، الزيارات، الأبناء!! إذاً لا فراغ نعاني منه..!! فهل الفراغ فخ نخشى الوقوع فيه.؟!
في رؤية المعماريين المكان فراغ، خيال المعماري يملأ الفراغ بتصور يرسمه على الورق ثم يحوله إلى بنيان يشغل المكان، ويتم فيه التعامل مع الفراغ بفلسفة السكنى أو الاستخدام مما تتيح حركة الإنسان في المكان وتواصله معه، وانفراده بمساحات أو تقاسمها مع آخرين، ويعكس المعماري والفنان في تفاصيل الأمكنة وتقسيمات المساحة وتوزيعها فلسفة للوجود والقيم... ورمزية لمعاني الجمال في ثقافة ما.
***
عند نوع من الطيور هناك غريزة يطلق عليها (الحركة في الفراغ). الطيور تريد أن تبني أعشاشها ولم توفق في العثور على المكان المناسب، ولم تجد المادة التي تبني بها العش.. لذا فهي لا تقف ساكنة في حيز ضيق بحجم جسدها.. بل تروح وتجيء.. وتقف على غصن.. وتحرك منقارها كأنها تجد قشا، أو تبني عشاً..
فالطيور رأت في الفراغ التفاصيل التي رأها الشاعر والمفكر الفلسطيني حسين البرغوثي فألف كتابه (الفراغ الذي رأى التفاصيل) عبر فيه عن علاقته بالمكان. (ما كنت ناياً
كنت الفراغ الذي في داخل الناي من غيره لا تقدرون على الغناء أينه؟ أينكم؟ إن هندستي أن أصمم نفسي وصمتي غناي)
* أصل اللغة فراغاتها..
والفراغ هو ما يعمل أهل العلم الحديث للإمساك به عبر التقطيع والعزل والتشريح الصوتي والدلالي.. ووحده الشاعر يسكن هذا الفراغ.. يبني فيه ويهدم، ليبني.. يعمر ويرمم..
وحده الشاعر من صنع من فراغ حبيبته جبلاً تسلقه وبنى في أعلاه قصراً وعرشاً وملائكة.. وربما صنع من الفراغ موعداً حضره، وكان بقربه نهر عظيم وشمس كبرى ولحن باسق وقلب محطم مع كرسي فارغ جميل.
***
قد يضيق أفق البعض في فهم الفراغ، فيقارن بينه وبين الوحدة بحيث يرى الفراغ: أن يكون حولك كل البشر، تراهم، تحس بهم، ولكن وجودهم كالعدم. ويرى الوحدة: أن يكون حولك ألف إنسان فلا تحس معهم بأحد.. رأي معقول.. لكنه ليس كمن يرى الفراغ امرأة مستعصية البوح.. الكأس أمامك حوى سائلا.. عين رجل تقع على الجزء الفارغ.. وعين رجل آخر تقع على الجزء المملوء..
كأولئك الذين يرون الفراغ مفسدة للمرء أي مفسدة..
تضيق الرؤية فيضيق الأفق على الرائي..
ويتسع الأفق باتساع الرؤية.. عندما نعلم أن الفراغ عند الفنان التشكيلي والرسام يمنح اللوحة فضاء رحبا، وشفافية أنيقة..
فالذهن من طبيعته أن يكون فارغاً، ومن طبيعة الفراغ أن يكون قابلاً لأن يُصبُّ فيه رأي أو نظرية أو مذهب أو معرفة أو شعور أو ذكريات على حد قول (مراد السوداني).
فهو يطلب منا أن نميز بين الذهن ومحتواه، كما نميز بين الفنجان والشاي الذي في الفنجان..
يتشكل وفق شكل الفنجان أو حيز الفراغ فيه..
فمن رأى الفراغ امرأة مستعصية البوح أبدع في الوصف..
في حين يذم العامة الفراغ.. نجد العلم الحديث والفن الرفيع يتخذه مادة العطاء والشفافية والخيال والإبداع..
الصحراء ممتدة بفراغ ألهب قريحة البدوي فامتد بعد التأمل لديه..
أن تجلس على ناصية الطريق وتطلق لبصرك العنان فيصطدم بسور حديقة.. أو مركبة عابرة.. أو كهل يترنح.. فإن الاصطدام يعرقل وظيفة البصر ويعطل الذهن، بخلاف لو انطلق بصرك بامتداد بحر شاسع الفراغ.
للفراغ أيضا أبعاد في الزمن، فالوقت مجال الفعل، والفعل يعني حركة تملأ مساحة الزمن، والله يدعو العبد أن يمشي في مناكبها، ثم بعد أن يفرغ... يتفرغ، ينتقل من شغل الوقت بالإنتاج المادي إلى ملء الوقت بالمعنى: الترقي المعنوي والفعل العبادي، {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} (7-8) سورة الشرح. فالعبادات فراغ من هَمِّ الدنيا وانشغال بهمّ النفس
الفراغ الوجداني أيضا موضوع واسع ينبني على ذلك، فالقلب أيضا قد يمتلئ، وقد يغدو فارغا، قال تعالى: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (10) سورة القصص. ويقول المفسّرون إن فارغا هنا تعني ثلاثة أمور، فارغا إلا من ذكر موسى، منشغلا به بالكلية، أو فارغا بمعنى خاليا من الوحي الذي أوحى الله به لها كي تلقي به في اليم، لذا كان ختام الآية {لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} (10) سورة القصص. أو فارغا بمعنى فارغا من العقل
تساءلت الشاعرة اللبنانية (سوزان عليوان)... ماذا أسمي الفراغ الذي بين شاهد قبري وشهادة ميلادي.
وأرى ألا تسميه.. بل تدعه في ذمة الفلسفة.