قدمت فرنسا نموذجاً عالياً في مواجهة الإرهاب، إذ تضامن العمل الأمني العسكري مع الفكر والسلوك الحضاري والثقافي اللذين تتميز بهما فرنسا على وجه الخصوص، فالعمل الإرهابي المركب الذي أشغل فرنسا والعالم طوال الأيام الأربعة الماضية لم يكن عملاً بسيطاً، إذ كشف عن تخطيط منظم تقف وراءه جماعات إرهابية إجرامية تحمل أفكاراً ضالة ومضللة، وقد كشفت الأحداث حتى شكل ملابس وأسلحة من نفذوا العمليتين الإرهابيتين في مجلة شارلي ومتجر الأغذية اليهودية أن هذين العمليتين مخطط لهما تخطيطاً محكماً، وأن الإرهابيين لا يمكن اعتبارهما مدافعين عن القيم الإسلامية ومصالح المسلمين، فقد أدى عملهما إلى مساعدة أعداء المسلمين في توجيه المزيد من الاتهامات للمسلمين ومضايقتهم، فضلاً عن مقتل ثلاثة من المسلمين في عملية مجلة شارلي وقتل الشرطي المسلم من أصل تونسي وهو الذي اعتدي عليه خارج مبنى المجلة والذي شاهده الجميع وهو يتلقى رصاصة الإرهابي الذي عاد إليه ليقتله بدم بارد، كما قتل المراجع اللغوي (المصحح) في المجلة وهو مسلم من أصل جزائري، كما قتل زميل آخر له من أصل مسلم يعمل في المجلة.
إذن الإرهابيون لا يفرقون بين شخص وآخر بسبب الانتماء أو الديانة، هدفهم فقط تنفيذ مخططات وأجندات من دفعوهم للقيام بمثل هذا العمل.
والعمل الإرهابي المركب الذي شهدته باريس يؤكد من جديد أن الإرهاب (وباء عالمي) يتطلب التكاتف والتعاضد بشرياً لمواجهته، والمواجهة لا يجب أن تقتصر على الأساليب الأمنية والعسكرية، بل يجب أن يضاف إليها الفكر والحوار ومعالجة الثغرات التي يتسرب من خلالها الإرهابيون. والفرنسيون الذين أظهروا رباطة جأش وسلوك حضاري عال من خلال إجماع وطني رافضين السلوك المنحرف لهؤلاء الإرهابيين، قد استجابوا لدعوة الرئيس الفرنسي فرانسوا هولند بالخروج متضامنين اليوم الأحد للتظاهر ضد الإرهاب من جميع التوجهات والانتماءات والأصول، إذ سيتراص الفرنسي اليميني مع اليساري، والمسلم مع المسيحي واليهودي والملحد، فالجميع فرنسيون يدافعون عن وطنهم. هذا التضامن والوحدة الوطنية الفرنسية أنجع الأساليب في إجهاض عمل الإرهابيين، وليس شق الصفوف وإشاعة الكراهية مثلما تحاول الجبهة الوطنية بتوجيه التهم إلى جميع المسلمين الذين هم أكثر المتضررين من أفعال الإرهابيين.
أخيراً أظهر العمل الإرهابي المركب أن الأمن الفرنسي قادر على إفشال كل الأعمال الإرهابية مهما تعقدت الخطط ومهما تفوقت المنظمات الإرهابية في تنظيم المنتمين إليها وتجنيدهم واتسعت حيلهم، إذ عملت الأجهزة الأمنية بهدوء وبصمت على الأجهزة حتى قضت على الإرهابيين الثلاث الذين شاركوا في تنفيذ العمل الإرهابي المركب.