محمد آل الشيخ
مثلما برَّر المؤمنون بنظرية المؤامرة هجمات 11 سبتمبر الدموية بأنها (مؤامرة) يهودية، عادوا اليوم ليبرروا التبرير نفسه، واعتبروا جنون الدواعش، وأفعالهم، وجرائمهم هو أيضاً مؤامرة أمريكية على الإسلام، بهدف الإساءة إليه وتشويهه.
سادتي: لم تكن القاعدة وأفعالها ودمويتها وجنون أقطابها مؤامرة، مثلما أن داعش هي الأخرى ليست لا مؤامرة ولا شيء من هذا القبيل، ربما أن هناك من وظفها، ووظف أفعالها الشنيعة، لخدمة أهدافه، لكنها ثقافة نابعة من صلب ثقافة بعضنا، ومنتج من منتجاته؛ فاستحضار التاريخ، واستحضار بعض رجاله، ومقولاتهم واجتهاداتهم، وفرضها على الواقع المعاصر، لا بد وأن ينتهي بنا إلى هذه النهاية الدموية المرعبة. القضية قضية محض ثقافية، تنبع من ثقافة مولعة بالماضي ورجاله، ولا تقيم وزناً لاختلاف المكان والزمان، ولا تحفل بالمتغيرات بين ما كان وما هو كائن، ثقافة ترى أن أمجادها وقوتها تتمحور في العودة إلى السلف وتراثهم، واتِّباعهم نحو القذة بالقذة في كل شؤون الحياة؛ صحيح أن قضايا العقيدة والعبادات يجب أن تكون تماماً كما تلقيناها من السلف الصالح، وتحديداً ممن عاشوا في القرون الثلاثة الأولى من بعثته صلى الله عليه وسلم، لأنهم الأقرب زمنياً لفهم هذه الثوابت العقدية والتعبدية؛ أما في القضايا الدنيوية، فيجب أن نتعامل معها حسب القاعدة (أينما يكون العدل فثمة شرع الله)، والعدل ليس قضية ثابتة لا تتغير مبادئها ولا تتطور مفاهيمها، وإنما هي مثل أي شأن دنيوي آخر، تتطور وتتغير؛ فما هو يُعد من صميم العدل والإنصاف اليوم، يختلف عن مفاهيم العدل في عصور سابقة. والأمثلة على ما أقول أكثر من أن تحصى. هنا بيت القصيد ومربط الفرس من القضية برمتها.
القاعدة وكذلك داعش ومثلهم فرقة السروريين المتفرعة عن جماعة الإخوان المسلمين أو كما يسمون أحياناً (القطبيين)، هم منظومة مسيسة واحدة لا تحفل بالزمان ومتغيراتــه؛ ربما يختلفون فيما بينهم في بعض التفاصـيل وتوقيت المواجـهة مع الأنظمة الحـاكمة ليتسنى لهم تغييرها، إلا أنهم يتفقون في الهدف، أي أنهم (ربما) يختلفون في الوسائل ويتفقون في الغابات؛ ومن يقرأ أدبياتهم، وتأصيلاتهم، وشواهدهم، ومنهجهم، يصل بسهولة إلى هذه الحقيقة، التي لا يرفضها إلا مكابر أو مغالط؛ فالقضية لا علاقة لها بالمؤامرة قدر علاقتها الحميمية بثقافة ظلامية لا تؤمن بأن الزمن يتغير بتغير العصور واختلاف المكان وظروف الإنسان، وأن إيقاف الإسلام عند زمن محدد لا يبرحه هو من متطلبات الإسلام، وهم هنا مثل أولئك الذين يغالطون الحقائق العلمية القطعية، ويصرون على أن الأرض لا تدور.
وكل أولئك الذين يعتبرون الإرهاب والإرهابيين والقاعدة وداعش (مؤامرة) هم كالمريض الذي يأبى نصائح الأطباء المعاصرين وإرشاداتهم، ويصر على أن علاجه عند (الأطباء الشعبيين) أو الرقاة وأقرانهم، لا فرق بين من يؤمن بنظرية المؤامرة كباعث ودافع للإرهاب، ومن يؤمن أن ما أصابه من مرض سببه (حسود تنحته) كما يقول العوام.
أعرف أن مواجهة الحقائق والتعامل معها من أصعب المصاعب في هذه الحياة، لكن ليس أمامنا حل إلا مواجهة هذه الحقائق مباشرة، والتعامل معها بشجاعة وجرأة، دون أن نبحث عن أسباب أخرى، لا يكرسها أمامنا إلا الأوهام والخرافات والأساطير.
القاعدة ستبقى وداعش هي الأخرى ستبقى، فمناصرو الفرقتين في البلدان العربية كُثر، وربما تظهر فرقة ثالثة أشد وأنكى وأكثر تطرفاً من الفرقتين مستقبلاً، ما لم نتعامل مع هذه الثقافة الظلامية بحسم ودون مواربة ولا مجاملة هذا أو ذاك كائناً من يكون.
إلى اللقاء