عبدالعزيز القاضي
نسج الخيال الكذوبي!
شعر الغزل والوجد للزور نجاب
منشاه من نسج الخيال الكذوبي
- عبدالله بن عبار
هذا بيت من قصيدة جميلة للشاعر عبد الله بن دهيمش بن عبار العنزي يرد بها على خالد بن رمضان السويلمي، وكان ابن عبار قد قال قصيدة مطلعها:
يا لله يا رحمن يا خير مطلوب
يا رب غيرك ما لنا رب ثاني
ذكر فيها أنه عزم على التوبة، وأنه نوى إطالة لحيته وتقصير ثوبه وأنه عزم على ترك لعب الورق وسماع الأغاني.. وغير ذلك، قال:
نويت أوفر لحيتي وأقصر الثوب
وأشوم عن لعب الورق والأغاني
نويت أغض الطرف عن كل رعبوب
وأكف عن شعر التغزل لساني
وأعرض عن الغايب ولوفيه شاذوب
وأصفح عن اللي في كلامه هجاني
.. إلخ
وقد تفاعل مع القصيدة عدد من محبي الشاعر من الشعراء، وردوا عليه بقصائد، ومنهم خالد بن رمضان السويلمي، ومطلع قصيدته:
يا الله يا مدير الهوا وكاشف النوب
يا من خلقت أضلاع عبدك محاني
وليس الحديث هنا عن قصيدة ابن عبار والردود عليها، بل عن الفكرة التي طرحها حول شعر (الغزل) في بيت السياحة أعلاه وحول ملابسات إنشاء هذا البيت والبيت الذي يليه، فحديثه عن شعر الغزل في هذا البيت يمثل توضيحا لموقفه من هذا الغرض، كما أن البيت الذي يليه، وهو قوله:
وشعر الهجا به يرتدع كل مغتاب
حيثه مثل رد النقا بالحروبي
يمثل توضيحا لموقفه من شعر الهجاء، وسبب ذلك فيما يبدو رد ما فهم خطأ من قوله في قصيدته الأولى:
نويت أغض الطرف عن كل رعبوب
وأكف عن شعر التغزل لساني
وأعرض عن الغايب ولو فيه شاذوب
وأصفح عن اللي في كلامه هجاني
من أنه سيترك شعر الغزل وشعر الهجاء برمتّه، خصوصا بعدما قرأ قول خالد بن رمضان السويلمي:
يقول أبو مشعل نويت أقصر الثوب
وأغضي عن اللي يكحلن العياني
عن التغزل والهجا قال أباتوب
توبة نصوح ومرتجي للحساني
فقد أراد بقوله (وأكف عن شعر التغزل لساني) التشبيب تحديدا، وهو ما عبر عنه بقوله (التغزّل) وليس الغزل عموماً، والتغزل عادة يكون في الواقع بينما (الغزل) يكون في الخيال، وربما كان هذا التفريق في المصطلحين غير مقصود في البيتين لكنه كان في غاية التوفيق.
أما الهجاء فأوضح الشاعر أنه سيترك منه المبادرة في الاعتداء ولو كان لها موجب، وأنه سيصفح عمن هجاه في غيابه، أما من بادره في حضوره فلن يتركه حتى يردعه وهذا نوع من الهجاء شريف لأنه بمنزلة الدفاع عن النفس.
شعر الغزل والوجد للزور نجاب
منشاه من نسج الخيال الكذوبي
ومعنى (للزور نجاب) أنه منجب ومفرز للكذب والادعاءات الباطلة، ووصَف الشاعر الخيال بـ (الكذوب) لأنه خلاف الواقع، وفضّل التعبير بهذه الكلمة الحلوة في هذا الموقع لأن مجال الحديث هو التوبة والإقلاع عن الذنوب، فالغزل عنده ليس إلا خيالا كاذبا، لكن الكذب في الشعر ليس نقيض الصدق في غيره بل رديف الخيال ولذلك قيل أعذب الشعر أكذبه.
ومعظم الشعر الجميل (منشاه من نسج الخيال الكذوبي)، فالخيال هو بصمة الشعر الخاصة، وهو نفحة الجمال ونشر الإبداع، ففيه يهرب الشاعر من رتابة الواقع ومرارته أحيانا إلى مثالية يتخيلها وعالم جميل يتفاعل مع جماله ويستمتع به.