محمد بن عيسى الكنعان
خيمّت القوى الاستعمارية الغربية على المنطقة العربية عقب سقوط الخلافة العثمانية في مطلع القرن العشرين الميلادي، ولم تنزع أطنابها وتلملم أروقتها من المنطقة إلا منتصف ذلك القرن، وقد خلفت وراءها واقعاً سياسياً هشاً، وتردياً حضارياً اجتماعياً، فقفز إلى سدة الحكم ومواقع السلطة مجموعة من العسكريين العرب الانتهازيين، عبر الانقلابات العسكرية تحت شعارات القومية العربية (المزيّفة)، من حرية، وكرامة، ونصر؛ لاستعادة المجد العربي المسلوب في فلسطين المحتلة، وتنقية المجتمعات العربية من مخلفات الاستعمار. فسيطروا أولئك الانقلابيون على مقدرات دولهم، وحكموا شعوبهم من خلال المؤسسة العسكرية المتسترة بالحزب الحاكم.
كان الأمل في الأنظمة العسكرية العربية رغم الفساد الاقتصادي الذي تعيشه، والاستبداد السياسي الذي تمارسه على شعوبها، أن تكون درعاً للأمة في مواجهة الأطماع الصهيونية، والهيمنة الصفوية، التي تنامت بالمنطقة خلال السنوات الخمسين الأخيرة، حتى صارت إسرائيل تعربد في لبنان وإسرائيل معاً، وإيران ابتلعت العراق، وتحكمت بسوريا، وجعلت (حزب الله) خنجراً في خاصرة لبنان. وتعبث في أمن اليمن لإيجاد موضع قدم ثابتة.
النتيجة الكارثية التي وصلتها منطقتنا العربية بسبب تلك الأنظمة العسكرية العربية شاهدنا فصول وقوعها المتتابعة، بدايةً من العدوان الآثم لنظام صدام البعثي العراقي على الكويت العام 1990م، الذي جرّ وراءه الغزو الأميركي للعراق العام 2003م، فسقط نظام الدولة العراقية تماماً، وتم حلّ جيشها الذي كان يُعد من أقوى جيوش العرب في المنطقة، فصار العراق العظيم مجرد قاطرة تديرها حكومة طائفية ضمن المشروع الصفوي الدموي. ثم بعد سنوات قليلة جاء ما يسمى (الربيع العربي)، بعضه بثورات شعبية، وآخر باضطرابات أمنية، فنجحت دول بتجاوزها، وتعثرت أخرى، وثالثة ما زالت تعاني، بينما تحولت سوريا إلى منطقة احتراب داخلي دموي وصراع إقليمي حاد بسبب إجرام بشار الأسد، أما اليمن فكاد أن ينفرط عقده لولا الله ثم المبادرة الخليجية، التي أدركته محققةً حالة من التوافق الوطني بين التيارات والأطياف السياسية اليمنية، غير أن الحوثيين لم يلتزموا بهذا التوافق، فانقلبوا على الشرعية، وأمعنوا في والإرهاب والخراب داخل المدن اليمنية، وسجلوا أنفسهم عملاء جدد لدى ملالي إيران.
إن من ينظر إلى المشهد العربي يرى أن ما حدث مع العراق بالأمس، نشاهده اليوم فعلياً يحدث من قبل نظام بشار البعثي الطائفي، الذي مارس وما زال يمارس القتل الممنهج، والتشريد، والتجويع لشعبه بدعم كامل من إيران، وروسيا، والتنظيمات الشيعية الإرهابية وفي مقدمتها (حزب الله)، فتحول الجيش السوري العربي (جيش الصمود والتحدي) إلى ترسانة في عجلة المشروع (الفارسي) تفرم الشعب السوري. وقد كاد أن يتكرر هذا الوضع في اليمن لولا لطف الله ثم القيادة السعودية الحكيمة؛ عندما أطلق خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز (يحفظه الله)، عملية (عاصفة الحزم) في رسالة قوية ومحددة، ذات دلالة واضحة أن المملكة لن تسكت على اختطاف الوطن العربي من قبل المشروع الصفوي، ولن تقف متفرجة على سقوط عواصم العرب الواحدة تلو الأخرى، ولن تسمح بأن تكون اليمن خنجر أبو لؤلؤة المجوسي في خاصرة السعودية.
ولأن المخلوع علي عبد الله صالح من بقايا زمرة العسكريين، الذين دمروا الأمة بأنظمتهم المستبدة، وفسادهم الاقتصادي، فهو يؤمن بنسف القيم السامية، وأن المصالح الشخصية هي لغة التفاهم، لذا سوّلت له نفسه أن يساوم السعودية، دون يُدرك الفرق الشاسع في العقيدة العسكرية بين جيوش (القومجيين العرب)، التي سخروها لذبح شعوبهم وفق حساباتهم الحزبية، أو تنفيذاً لولاءاتهم المذهبية، أو ارتهنوها للمشروع الفارسي رغم شعاراتهم القومية، وبين (الجيش السعودي)، العربي بقوميته، والإسلامي بهويته، الجيش الذي يتوشح راية التوحيد، ويتظلّل بالنخلة، ويتقلد سيف الحق لينتصر للمظلم، ويدافع عن الحقوق العربية، ويتصدر القضايا الإسلامية. الجيش الساجد في الثكنات، والمسبح بالميادين، الجيش الذي يجيد إطلاق العواصف لاجتثاث أوكار العمالة، ولا يقبل أن يُداس تراب وطنه الطاهر، أو يعبث أحد بأمنه واستقراره. الجيش الذي يستطيع أن يملك زمام المبادرة على مسرح الأحداث بالتوقيت الذي يريد تحت مشيئة الله. الجيش الذي لا يعرف مبدأ الانتهازية أو لغة المساومة، إنما رسالته نصرة الحق ونجدة الأشقاء، لذلك كان هو الجيش المجلّل بالفخر، ومصدر الاعتزاز، فقد عطر تاريخ العرب بأربعة مواقف مجيدة حفظت للأمة بقية الأمل في حياة الكرامة، في حرب العاشر من رمضان ضد إسرائيل العام 1973م، وحرب تحرير الكويت العام 1991م، وحماية البحرين العام 2011م، وعاصفة الحزم لعودة الشرعية في اليمن 2015م. وهنا يكمن نموذج السعودية في سمو العقيدة ودرس العسكرية الصحيحة لكل جيوش الأمة العربية. درس لا بد أن تستوعبه الأنظمة التي تريد الخير، وتستلهم قيمه السامية الجيوش، التي تؤمن بحماية الأرض وصيانة العرض وفق منهج الله لإقامة شرعه الحكيم.