لبنى الخميس
حينما أنظر إلى الوراء، لأول يوم وصلت فيه إلى دبي.. وفي داخلي مزيج من الحماسة والخوف.. الفرحة والحزن..
وانا لا أدري هل سيمنحني الزمان، وتكرمني أقداري بشهادة تخصص «الصحافة» الذي لطالما حلمت به؟ وهل سأستطيع أن أبدأ حياة جديدة ناجحة ومنجزة، وأنا المكسورة من وفاة والدي قبل أقل من ستة أشهر؟
توجّهت إلى أحد فنادق الإمارة فور وصولي.. ولا أنسى دموعي وهي تتساقط على طاولة الاستقبال في الفندق.. وسط علامات التعجب والقلق التي بدت على موظفة الاستقبال.. التي مدّت لي منديلاً وسألتني إن كنت بخير؟ فأجبتها: اليوم تبدأ رحلة أربعة أعوام أعيشها وحدي بعيداً عن عائلتي.. غرفتي.. سريري.. رائحة قهوة أمي.. وكل الوجوه التي أحب. فأخبرتني مواسيةً: بأن نجاحنا في الحياة يبدأ خارج منطقة راحتنا out of our comfort zone.
توجهت إلى غرفتي وأنا أكفكف دموعي في المصعد، وأردد في نفسي.. ماذا فعلت؟ أي حماقة دفعتني أن أترك بيتي، وجامعتي، وأسرتي، وأقاربي، وأبدأ في (دبي) من الصفر؟ أذكر بأني لم أنم تلك الليلة، وذهبت إلى الجامعة صباحاً بجفوني المنتفخة وجسدي المرهق من السفر والهم.. دخلت فصول جامعتي لأول مرة.. راقبتها عن كثب، حتى انتهى بي المطاف في إحدى كراسي الحديقة الخشبية، أتأمل وجوه الطلبة والأساتذة، وأتساءل هل سيقبلني هذا المجتمع؟ هل سأنجح في تكوين علاقات طيبة أبني وإياها ذكريات جميلة واستثنائية خلال السنوات القادمة؟ وهل سأعود إلى وطني وأسرتي وأنا أحمل شهادة جامعية تثبت أن قرار توقفي عن دراسة القانون في جامعة الملك سعود بعد عام ونصف كان قراراً صائباً رغم جرأته، مثمراً وإن بدا غير منطقي، وأكسب رهان إدارة كلية الشيخ محمد بن راشد للإعلام علي حينما قدمت لي منحة سخية لدراسة الصحافة.
وفعلاً.. مضت السنين سريعاً، كرحلة ملونة بسرعة الضوء.. عشت فيها ما عشت من تعب وسهر وشك.. لكني لست نادمة عليها، بل بالعكس، علمتني أحداثها الكثير.. وأهدتني أيامها باقة ذكريات ودروس لن أنساها ما حييت.. ومرّ علي نخبة من أساتذة الصحافة، المولعين بمهنتهم، والشغوفين بلغتهم العربية حد القداسة. أذكر أن إحدى الأستاذات كانت «تحرر مخالفات» في حصصها بالعربي لكل طالب يتفوه بكلمة إنجليزية، وتجعله يدفع غرامة قدرها درهم عن كل كلمة، للتكفير عن» ذنوب الإفرنجية». مطالبة الطلاب «صحفييّ المستقبل» بشراء مزرعة وتربية الدواجن، إن فشلوا في تشرّب قواعد المهنة، وأوّلها أن تتمكن من زمام لغتك، وتتقن استعمالها.
أربعة أعوام مضت في أروقة الكلية، دخلتها وأنا بالكاد أفرق بين التقرير والتحقيق والخبر، وكيفية اختلاف الخطاب في المنصة التلفزيونية عنها في الإذاعية والمطبوعة، وها أنا أتخرج اليوم معترفة بأني لازلت أخطئ أحياناً، لكن دراسة الصحافة تمنح طلابها فرصة ثمينة لصقل مواهبهم أكاديمياً، وتعليمهم أن الصحافة ليست محطة نصل لها، بل طريق وأسلوب حياة. تبدأ في الشخصية المتسائلة، الباحثة عن القصة وتفاصيلها، المهمومة في الوصول إلى الحقيقة، تؤمن أن سلاحها وملاذها، وصوت عقلها وجنونها، يكمن بين ثنايا الكلمات.. أغلى ما تملك.. بل كل ما تملك.
ومن فضل الله علي أن أكرمني بوجوه باسمة وأرواح نبيلة، زرعها الله في طريقي المتعثر، وخطواتي المرتبكة، في بداية الأمر، لتساندني وتقف بجانبي داعمة ومصفقة.. ولتذكرني بأني قادرة على تحدي الغربة.. وكل ما تخلقها من صعوبات.. وأضم أمي وإخوتي وأعمامي وعماتي في تلك القائمة التي أكن لها كل حب وود وتقدير.. على الإيمان بي والدعم المستمر وغير المشروط لمسيرة دراستي وتحقيقي لذاتي.
وإن أنسى فلا أنسى أن أشكر قائد الإنجازات الكبرى و اللامستحيل، الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم على إيمانه بدور الإعلام وتأسيسه هذه الكلية لاستقطاب المواهب والقدرات العربية وتقديم منح دراسية سخيّة، لتعزيز دور الإعلام وترسيخ مكانته، ومنحه بعداً تخصصياً وأكاديمياً.
أخيراً تمنيت طوال عمري أن يشهد والدي عصام - رحمه الله - هذه اللحظة الفارقة من حياتي، لأطبع قبلة على يديه ورأسه، وأخبره بأني أحببت الصحافة على يده.. وآمنت بتأثيرها وقوتها من خلال إيمانه بها، وهو من كان يقرأ علي بصوته الجهور «فواتح الجزيرة» كتاب والده الصحفي العتيد عبدلله بن خميس الذي تشربنا من سيرته وكفاحه معنى أن تناضل بالكلمة، وتصنع تغييراً بقصيدة.
فلا أنسى صوته وهو يناديني إلى مكتبه في الطابق العلوي، لأقرأ عليه مقالاً صحفياً بصوت مرتفع ليصوب قراءتي، ويسألني بعدها عن مواضع النقص وجوانب القصور في المقال، حتى مضت الأعوام وصدقت نبوءته، وبت أنشر مقالاتي الخاصة في جريدتي المحببة «الجزيرة» بعد أن منحني رئيس تحريرها الاستثنائي عموداً أسبوعياً لأمارس فيه شغفي القديم والجديد للصحافة.. شكراً دبي.. لقد تحقق حلمي.
الجزيرة: رائعة يا لبنى، بهذا الطموح، الإصرار، الابداع، التحدي، وهذا النجاح المبهر، لك أيتها الزميلة المجدة والمجتهدة والمتفوقة أجمل التهاني، وبانتظار المزيد.