د. محمد بن عويض الفايدي
قوة الاقتصاد والقوة العسكرية وقوة التلاحم المجتمعي والولاء والانتماء وقوة الاستقرار السياسي حزمة من مقومات الاستقرار الكلي الذي تتميز به المملكة العربية السعودية كنموذج فريد للدولة المعاصرة التي تمتلك هذه المقومات التراكمية للاستقرار والأمان الوطني.
مقابل هذه الجملة من المرتكزات الراسخة التي تُرسخ أركان الدولة فالمملكة تمتلك قيمة مضافة أخرى توازي أن لم تكن تزيد عن هذه المقومات للقوة مجتمعة هي تلك القوة الناعمة التي تمتلكها المملكة ولا يمتلكها سواها من الدول وتتميز وتتفرد بهذه القوة الناعمة المتمثلة كذلك في حزمة أخرى من عناصر القوة ومقومات التميز التي تمكنها من التأثير المباشر على قاعدة عريضة من الناس في شتى بقاع الأرض، وفي مختلف دول العالم المتقدم منها والنامي في أسرع وقت وبأقل تكلفة.
تنفق الدول الأكثر تحضرًا إنفاقًا ماديًا ومعنويًا ضخمًا على القوة الناعمة منذ دخولها مجال العلاقات الدولية في عام 1990م، وقبل أن يصدر الأمريكي جوزيف ناي الأستاذ في جامعة هارفارد كتابه القوة الناعمة في عام 2004م، لوصف القدرة على الجذب والتفاهم دون الإكراه أو استخدام القوة الخشنة كوسيلة للإقناع.
تتخطى مقومات القوة الناعمة القوة الخشنة بتوظيف المبادئ المشتركة لمجمل شعوب العالم وفي مقدمتها الإيمان بالرسل والكتب السماوية، ويشكل الإسلام أعلى قيمة عالمية مشتركة له ثقافة عالمية التوجه في العبادات والمعاملات ومبادئ الأخلاق والسلوك القويم، وملامسته لأحاسيس الشعوب. ويأتي التقدم العلمي والتطور التقني، وقنوات العلم والمعرفة، ونشر الكتب والبحوث وبراءات الاختراع، وتصميم وتنفيذ المخترعات، وثقافة النخب، والإرث الفكري والثقافي والتراث، والإعلام والفنون، والرياضة، والمنح الدراسية، والاقتصاد والتجارة والاستثمار، والعمل الخيري والإنساني، وشبكات التواصل الاجتماعي المباشر بين الناس وغيرها من مجالات القوة الناعمة التي ترفع المملكة من رصيدها التراكمي يوم بعد يوم بمواقفها الحازمة والحاسمة والإنسانية بتراكمية ذكية تؤكد دورها الريادي ومسؤوليتها التاريخية عربيًا وإسلامياً وعالميًا.
تتميز المملكة بأنها مهبط الوحي وقبلة المسلمين وشرفها الله بخدمة الحرمين الشريفين المسجد الحرم في مكة المكرمة والمسجد النبوي في المدينة المنورة، وتبذل الحكومة السعودية جهود متكاملة في خدمات ريادية توفر من خلالها كافة وسائل الأمان والراحة لقاصدي البيتين.
طباعة وترجمة أقدس الكتب السماوية القرآن الكريم من خلال مجمع الملك فهد لطابعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة ويتم توزيعه على المسلمين، وإهداؤه مجانًا للدول الإسلامية والدول التي يوجد بها مسلمون، والمسابقة الدولية للقرآن الكريم، وجائزة الأمير نايف بن عبدالعزيز العالمية للسنة النبوية المطهرة. تتصدر هذه الجهود الأعمال السعودية الرائدة ذات البعد الإسلامي العالمي الشامل قوي التأثير حتى في غير المسلمين.
تتفرد المملكة بالنموذج الإعلامي المشرق بقناة القرآن الكريم التي تبث مباشر للعالم من المسجد الحرام، وقناة السنة التي تبث مباشر للعالم من المسجد النبوي الشريف، في تكامل بين المصدرين الأساس للتشريع الإسلامي بعمل موحّد يعد قيمة مضافة وميزة تنافسية للمملكة دون غيرها.
مشروعات توسعة الحرمين الشريفين الفريدة والخدمات والتجهيزات والمعدات والتقنيات المتقدمة التي تُوفر بجودة عالية واستدامة، والتطوير التراكمي للمشاعر المقدسة قمة الرعاية الرائدة لقدسية تلك الأماكن وتهيئتها لأداء النسك بيسر وسهولة مع ضمان الاستقرار والطمأنينة والسكينة لمن يقصدها من المسلمين في جميع الأوقات، تُعد هذه الجهود الجبارة لوحة مشرقة للعالم تعكس حسن الرعاية وجميل الإنجاز والتعاون والتعامل مع دول وشركات شتى في تلك المنجزات.
تتصدر المملكة الدول في العمل الخيري والإنساني المطلق، وتجسد هذا العطاء المتواصل في كيان مؤسسي مبهر، تمثّل في انطلاقة مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية بهذه القوة وبهذا الدعم وبهذه الإمكانات، في هذا الوقت الحرج الذي تمر فيه منطقة الخليج خاصة والشرق الأوسط عامة بظروف استثنائية أثقلتها الانقسامات والصراعات العسكرية ما هو إلا شعور إسلامي نبيل لتعظيم العمل الخيري والإغاثي والإنساني وبذله للناس المحتاجين كافة دون النظر لجنس أو جنسية أو دين أو لون.
جهود الإعانات والمساعدات السعودية من يد سخية تهب الخير وتبذل المعروف للجميع في السعة وفي أوقات المحن والأزمات والكوارث، فالتنمية الشاملة كما هي داخلية هي أيضاً تنمية سعودية خارجية في الدول العربية والإسلامية وفي بقية دول العالم الأخرى. وهي في حقيقتها بذل وعطاء وفير يحمل هوية المملكة العربية السعودية وريادتها العربية والإسلامية وفي المنظومة الدولية ليظل شاهد في الرخاء وفي الأزمات وأمام أعين المنصفين وفي أعين الحاسدين والشامتين. مركز الملك عبدالعزيز العالمي للتراث الذي شرعت في إنشائه شركة أرامكو السعودية في المنطقة الشرقية بمحافظة الظهران، والذي سينطلق العام القادم لأداء دوره الحضاري العالمي, سيشكِّل قوة ناعمة أكثر تأثير في المشهد الدولي، وسيحفز هيئات وشركات وطنية أخرى لتبني مشروعات مماثلة.
في إطار الأمان الإنساني العالمي تم إنشاء مركز الملك عبدالله للحوار بين أتباع الأديان والثقافات والحضارات من أجل نبذ الصدام وتقريب وجهات النظر حول مجمل القضايا التي تشغل بال الناس، ومن أجل تعزيز الحوار بين أتباع الأديان والثقافات والحضارات المختلفة لتأسيس علاقات على قاعدة متينة من الاحترام المتبادل والاعتراف بالتنوّع الثقافي والحضاري. والذي يوصف بجوهر القوة الناعمة متعددة الأهداف تراكمية الغايات.
إسهام المملكة في إنشاء المركز الدولي لمكافحة الإرهاب ودعمه من أجل بلوغ أهدافه لحماية العالم من خطر الإرهاب وتداعياته المدمرة، يعتبر بذلاً ضمن منظومة القوة الناعمة المؤثّرة عالميًا في ظل الإجماع الدولي على مكافحة مخاطر التطرف والإرهاب بكل صوره وأشكاله.
يعد الابتعاث الخارجي رؤية مشرقة في ميدان العلم والمعرفة، إذ وصل عدد المبتعثين حتى نهاية العام الماضي إلى ما يزيد عن 150000 مائة وخمسون ألف مبتعث عدا المرافقين الذين استفادوا من فرص التعليم، بالإضافة إلى نحو 10000 مبتعث هذا العام.
مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية، ومدينة الملك عبدالله للطاقة الذرية والمتجددة، معالم بحثية فكرية وتقنية وقواعد جذب وتبادل للتجارب والمعارف والخبرات في منظومة التقدّم العلمي والتطور التقني. والعمل على التحول من التخطيط متوسط الأجل الخطط الخمسية إلى التخطيط السلوكي الذي يستجيب للتغيّرات المفاجئة بشكل سريع يحاكي التحديات الآنية، والاستثمار بشراكة عالمية في البحث والتطوير بتفعيل نظم الحوافز لتشجيع القطاع الخاص الذي ما زال دوره محدوداً على تمويل أنشطة البحث والتطوير. إضافة تبني فعلي لاقتصاد المعرفة، وصناعة المعرفة الأكثر تأثيراً في الاستثمارات العالمية.
حولت جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية الأنظار نحو قاعدة جذب علمي برؤية جديدة في نسق المؤسسات العلمية الرائدة على مستوى العالم لتتخطى المعوقات التي تعاني منه الدول الأخرى، وتفرض واقعاً جديداً ومسلمة مستقرة تُعيد للأمة صدارتها التي توارت بعد أن كانت تستقبل وفود حضارة العالم الغربي لتلقى العلوم والمعارف في أروقة محاضنها العلمية.
استثمرت الجامعة في الخريجين ودفعتهم إلى تحويل الفرص إلى نجاحات تجعلهم قادرين على الإبداع والابتكار المتواصل، وتجاوز التحديات التي ستواجه مسيرة عطائهم في دولهم أو حيث ما كانوا في عالم اليوم المليء بالتحديات. وهي بهذا تؤسس لمنظومة من الخبراء والمتخصصين في أدق المعارف والتقنيات يتوزعون في جميع دول العالم ويحملون اسم وفكر جامعة الملك عبدالله. وبرؤية إستراتيجية فهم سفراء لها وللمملكة العربية السعودية التي تسعى بأن تعم ثمرة عطائها العالم أجمع لتتيح للعالم قنوات للتعاون والتواصل بجسور العلم والمعرفة. وفي ذات الوقت تُرسخ لمبادئ الاستقرار الذي يحمل في طياته حسن النوايا ونبل الهدف لتعلن وبحق للعالم أجمع أنها مملكة الإنسانية. تفرض تحديات المرحلة الحالية ومؤشرات المرحلة القادمة قاعدة التنوّع في تفعيل معطيات القوة الناعمة برفع درجة الوعي المجتمعي بهذه القيمة المضافة للقوة السعودية الخفية، والتحرك قدمًا لتوسيع دائرة التأثير الإيجابي لكل من يصل إلى المملكة، ورفع الطاقة الإنتاجية لمجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف والتوسع في توزيع الحجم المتوسط من المصاحف، والعمل على طباعة عدد مختار من الأحاديث النبوية في مطبوعة بحجم مناسب يوزع مع المصحف. ضمن رؤية شمولية تضع مصدران التشريع الإسلامي الأساس بيد كل مسلم يغادر من منافذ المملكة.
رفع مستوى دور الإعلام، والإعلام المجتمعي «الجديد» بالتوسع في تبني توجهاته ضمن الإعلام التقليدي بتفعيل دور المحطات الإذاعية والقنوات التلفزيونية، والخروج من الدور التقليدي إلى منهج المواكبة وملاحقة الحدث واستغلال قناة القرآن الكريم والسنة النبوية لإعادة بث خطب الجمعة من الأرشيف التراكمي للحرمين الشريفين في برامج منسقة، وتوجيه القنوات الأخرى ببث حوارات المؤتمرات والندوات وحلقات النقاش التي تؤسس لمرحلة فكرية قادمة.
شهر رمضان المبارك لهذا العام فرصة مواتية لمزيد من الإسهامات عبر مؤتمرات ولقاءات لرابطة العالم الإسلامي، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، والبنك الإسلامي للتنمية، والندوة العالمية للشباب الإسلامي. لرفع كفاءة التضامن الإسلامي بقيم عالمية يشاركه فيها الآخرون، وإعطاء دور أوسع للشباب بمد جسور التواصل بين الأمم والشعوب ضمن منظومة قيادية جديدة توظّف التقنية الحديثة في تعظيم القوة الناعمة ومعطياتها الإيجابية بما يلبي التطلعات ويحقق الأهداف.