د. عبدالحق عزوزي
كنا قد خصصنا مقالات عن العلاقات المغربية السعودية في هاته الجريدة الغراء، كما كتبنا مقالة عن المرحوم عبد الهادي التازي، المؤرخ والأكاديمي المغربي، الذي كان في رتبة الوالد إلي، وأستحضر في هاته المقالة ما كان قد كتبه
عندما اختاره المرحوم الملك الحسن الثاني لحمل رسالة منه إلى المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان. فلقد كان المرحوم الحسن الثاني يسمع كثيراً عن هذا الرجل الحكيم العميق الرأي، البعيد النظر، وفكر في أن يتوجه إليه بالدعوة لزيارة المملكة المغربية بمجرد استرجاع الإمارات استقلالها بداية السبعينيات من القرن الماضي، ويحكي عبد الهادي التازي عن هذا اللقاء: «سألني الشيخ زايد وأنا أتحدث إليه عن المغرب وتقاليده وعاداته ومذهبه في الفقه الإسلامي: هل يهوى المغاربة القنص بالصقور؟ ولشد ما كان استغرابه حين أجبته بأن القنص بالصقور معروف في التاريخ المغربي حتى قبل بلوغ الإسلام المغرب، وأن في إقليم الجديدة بالمغرب قبيلة تدعى القواسم اشتهرت بهواية القنص بالصقور، فابتسم وقال: سيكون لنا اتصال بهم، فعرفت أنه من كبار هواة الصقور. وأراد أن يعرف أيضاً هل يعيش طائر الحباري في المغرب، وضحك حينما أخبرته أن نساءنا القديمات كن يوقظن همم بناتهن بوصفهن بالحبارى حين يتكاسلن عن العمل ولا يتحركن» إلى أن قال: «الذي أسجله باعتزاز كبير أن الشيخ زايد - رحمه الله - رحب كثيراً بالدعوة التي وجهها إليه الملك الحسن الثاني، وقال لي لا تغادر ديارنا إلا بعد أن أحدد لك موعداً. لا أنسى أبداً المبادرة التي أعتز بها وبذكرها حين قرر الشيخ زايد، على الرغم من الدعوات الموجهة إليه حينئذ من دول أخرى أن تكون وجهته الخارجية الأولى بعد ترؤسه الاتحاد هي المملكة المغربية. لقد عكست هذه الالتفاتة، التي خص بها المملكة المغربية، رؤيته لها دولة أساسية. وبالرغم من أن زيارته الأولى كانت قصيرة، فإنها عبرت عن تلاحم قوي، وإعجاب متبادل بينه وبين الملك، كما أسست لمستقبل لم نكن نتصوره آنذاك. غادر الشيخ المغرب مفتوناً بمباهجه ومنجزاته وأهله. كان الملك الحسن الثاني يتحدث إلى خلصائه والمقربين إليه بأن الشيخ زايد قائد عربي كبير ومتبصر، وأنه شعر في أثناء الحديث إليه بأنه فعلاً أمام شيخ كبير من شيوخ العرب، الذين ظهروا بالأمس على الساحة العربية. لقد أصبح ذلك اللقاء حجراً مفصلياً في العلاقات الثنائية بين القائدين وبين البلدين...» وأشاطر عبد الهادي التازي أحاسيسه عن إمارات اليوم التي انتقلت من صحراء جرداء إلى معلم حضاري وعمراني، فمن يزور الإمارات يكتشف، معالم النهضة المدروسة بإتقان، تتجلى في كل شارع، وفي كل مؤسسة، وفي كل قطاع. البنية التحتية معتنىبها من كما يجب، المدارس الابتدائية والثانوية والجامعات في كل ركن من أركان الإمارات، المنشآت الحضارية تعبر من تلقاء نفسها عن أن الإمارات وجدت لتكون على هذه الحال. المنجزات كثيرة لا ارتجال فيها ولا تهافت...... فالأسس التي وضعت وتوضع لهذه العلاقات هي على مبادئ قوية لا يمكن أن ينال منها الزمان، فهي قائمة على أصول لا تحور ولا تحول، وجلالة الملك محمد السادس مع أشقائه في الإمارات والمملكة العربية السعودية نموا هاته العلاقة المتجذرة بنور جديد ويقين وهاج، ويشهد على ذلك الزيارات المتبادلة والاتفاقيات المبرمة وهي بمنزلة عقود شريفة بين بلدين شقيقين؛ كما يشهد على ذلك التجاوب العفوي بين شعوب البلدين من مفكرين وأكاديميين ومؤرخين وتجار وأناس عاديين. وكل واحد من هؤلاء يضغط على التاريخ ويرسم على مسيله ومجراه طابع التأثير الذي يحدث التغيير. وبمشاركاتي المتتالية كأكاديمي وجامعي مغربي في العديد من المنابر السعودية والإماراتية وباستقبالي للعديد من المفكرين وأصحاب القلم والرأي السعوديين والإماراتيين في المغرب، أخرج بقناعة أن المغربي والسعودي والإماراتي دائماً تجدهم مفعمين بالأصالة والمعاصرة، لا يحيد عن قصدهم ولا يجور ولا يستسيغ من القديم والحديث والغريب والجليب إلا ما يتطلب ويتلاءم وما يؤمن به كل واحد من أصالة العقيدة وأصالة الالتزام وأصالة المناهج. وبين البلدان الثلاثة نستحضر شعراً قاله العرب القدامى:
وأحبها وتحبني
ويحب ناقتها بعيري
كما سبق وأن كتبنا في صحيفة الجزيرة الغراء أن النظام العربي محكوم في المدى القريب والمتوسط بأنواع البيوتات العربية الداخلية، ولكن هناك دولاً يمكن لها أن تحمل لواء الوحدة والسير بها قدماً إلى التكامل الاندماجي والاقتصادي وعلى رأسها بعض دول مجلس التعاون الخليجي كالمملكة العربية السعودية والإمارات والمغرب وغيرها على شاكلة ما وقع في أوروبا بين فرنسا وألمانيا، وكل الدول الأخرى ستركب السفينة وتضع حزام الأمان رويداً رويداً بتأثير النظام العربي الجديد وقيادة الدول المحورية في هذا النظام؛ ولا غرو أنّ هذا العمل يتطلب رؤى نخب بصيرة في محيط لا يمكن أن يكون متجرداً من لاعبين آخرين، ومساحة إقليمية ودولية لا يمكن أن تكون خالية من حساد ومغرضين سيعملون على عرقلته، وفي بيئة لا يمكن أن تكون إلا صراعية وغير مستقرة.
فالنظام العربي عاش أصعب أيامه وأعقدها لأنّ بناء هذا البيت العربي لم يكتمل؛ فأي نظام إقليمي أو عالمي يبقى رهيناً بالآليات السياسية المتحكمة في كل قطر من أقطاره، ونوعية النظام السياسي المحدد لسياسته الخارجية؛ والتجربة الأوربية أعظم تجربة يمكن أن نستحضرها في هاته الفترة الحاسمة من تاريخنا العربي؛ لأنها تحيلنا على تجربة طويلة في الزمن ولكن لها من السمات ما يجعلها تشبه بعضاً من محددات النظام العربي الذي هو اليوم في إطار التكوين أو لنقل النشأة الجديدة؛ لا يسمح المقام هنا بسرد تاريخي لتكون الوحدة الأوربية، ولكن فقط يمكن أن نشير إلى أن انضمام دول أوربا الشرقية إلى دول أوربا التقليدية ما كان ممكنا إلا لأنّ الآليات السياسية في تلك الدول تغيرت وأصبحت أكثر قابلية لتقبل قواعد الوحدة الإقليمية والخضوع لمبدأ ضرورة تجاوز الفكرة القطرية أو القومية إلى ما هو أعلى منها وأكثر ملاءمة لتطورات العالم المعاصر.
هذا التجاوز يكون من الدولة الأمة إلى ما هو أعلى منها وأوسع وأعم، وهي الفكرة الوحدوية الإقليمية، ولا يتم ذلك إلا عندما تكون العوامل المسيرة لتلك الوحدة مطابقة للعوامل المسيرة لكل قطر من أقطارها؛ فلا يمكن تصور نجاح انضمام دول أوروبا الشرقية إلى دول أوربا التقليدية لو لم يفتح المجال السياسي العام على المنافسة الاقتصادية الليبرالية الحرة، ولا ترسيخ مبادئ المحاسبة والمساءلة داخل الدولة، ولا إحكام عوامل الحكامة الجيدة ونظرة جديدة إلى التقسيم الترابي واللامركزية والجهوية الموسعة؛ وتستوقفني هنا القوة التعاونية بين الجهات الأوربية المختلفة (أي بين جهات كل دولة والجهات في الدول الأخرى) فأنشئت وحدات صناعية عابرة للقارات وشركات يضرب لها ألف حساب كالإيرباص مثلاً وهي حصيلة تعاون عدة جهات أوروبية مجتمعة.
فعملية «عاصفة الحزم» لإجهاض الانقلاب الحوثي على شرعية الرئيس عبد ربه منصور هادي، ولوضع اليمن على السكة الصحيحة لتجنيبها متاهات الحرب الأهلية، والجهر بأنّ أمن اليمن وأمن دول مجلس التعاون الخليجي هو كلٌ لا يتجزأ، وتواجد المغرب، وهي دولة مستقرة سياسياً ومؤثرة إستراتيجياً ودبلوماسياً وعسكرياً، إلى جانب أشقائه في دول الخليج رغم البعد الجغرافي، هي استراتيجياً مسألة تمهد لفكرة لطالما راودت الجميع وهي إقرار العرب بتشكيل قوة ردع عربية للتدخل السريع ... وإذا ما تم ذلك فإن المنظومة العربية ستتقوى بوحدة وقوة ومناعة دول محورية يمكنها أن تقود السفينة، ويمكنها أن تمؤسس لقوة ردعية عسكرية عربية دائمة ويمكنها أن تعيد الاستقرار والأمن في ليبيا وتستطيع أن تحقن الدماء في سوريا.