د. حسن بن فهد الهويمل
وعلى الرغم مما يبذله الخيرون. ويُلَوِّح به الكتبة المخلصون. ويبديه المجربون الناصحون. وتأتي به الآيات والنذر، فإن أوضاع أمتنا الموهنة، لما تزل مُفزعة، مُوجعة. تَسْري في عالمنا سريان النار في الهشيم.
وكلما فزعنا من كارثة، جاءت أخرى أشد، وأعتى، لترققها، وتبكينا عليها، بعدما بكينا منها. وكأن قدرنا أن نستعرض كل مصائب التاريخ، ونتجرعها، وإن لم نسغها. وكأن أمتنا بإدمان الفتن مقصودة بقوله تعالى:- {وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ}.
ولضرب الأمثال نتساءل :-
هل الوضع في دولة عربية، عريقة في ممارسة الحرية، و[الديموقراطية]، والمحاصصة المرضية لكل مكونات المجتمع :الدينية، والطائفية، والعرقية، يرضي العقلاء؟.
إن العقل في [لبنان] غائب، أو مغيب، أو هو مغلوب على أمره، وهو كذلك في بقاع كثيرة من وطننا المهيض الجناح.
كانت[ لبنان] جنة الوطن العربي، أمناً، واستقراراً، وجمالاً، ومَدَنِيَّةً، وثقافة. وكان عِلْية القوم من مختلف شرائح المجتمع العربي، يتخذون منها منتجعاً، يستعيدون فيه نشاطهم، وحيويتهم، ويمارسون في ربوعه حرية القول، والفعل.
يؤمها الساسة، والأثرياء، والمفكرون، والأدباء، وسائر عشاق الفن : المنتجون له، والمتمتعون به. حتى المرضى يقضون في أجوائه الحالمة فترات النقاهة. وعلى أديمه يلتقي المؤتمرون، والمختلفون، والمختصمون، وعبر مؤسساته تنجز أعقد المهمات السياسية، والتجارية. ومن خلال إعلامه تتجسد الرؤى السياسية، ويُلَبَّس على الناس، أو يفزع عن قلوبهم.
ومن لم يكن له في لبنان مَوْطِئ قدم، فليس له مكان كريم في المحافل الدولية.
فمن أفسد أوضاعه؟.
ومن أضاعه؟.
هذا البلد الأعجوبة، يُجَسِّد نفسه اليوم أمام الرأى العام بصورة كئيبة، بائسة، لا يحتاج سوؤها إلى دليل.
فالأطماع المجوسية المتقنعة بدعوى مساعدة المستضعفين من الطائفة الشيعية، ومساندة الممانعة، والمقاومة، والتصدي للشيطان الأكبر، تجد العصابة المتعصبة، المستأثرة، والمتآمرة على قوميتها، ووحدتها. تضع يدها بيد الحقد الدفين، وتستمد من الملالي، والآيات الدعم العسكري، والتضليل الفكري، والخرافة العقدية، والتوجيه المضل، وتحارب عنهم بالإنابة ضد اللبناني، والفلسطيني، والعربي.
تولى كبر ذلك كله [حزب الله ] الناسل من رحم [ حركة أمل ]، هذا الحزب نحر [الديموقراطية ] تحت أقدام شرار الخلق. ودفع بزهرة شباب لبنان، ليموتوا بلا ثمن على أرض الشام، واليمن يَقْتُلون فيأثمون، ويُقتلون فيخسرون، ثم تكون جرائمهم الوحشية عليهم حسرة، ثم يغلبون.
ولن ننسى حزب [الكتائب ] ومآسي [صبرا وشاتيلا ] التي شردت المشردين، وقتلت كرامة اللاجئين.
فما الهدف من كل هذه المقترفات بحق الوطن، وبحق الأخوة العربية، و بحق الدين بكل تعددية نحله، وملله المتصالحة؟.
من يوصفون بـ [الوهابية ] يختلفون ولكنهم لم يسيئوا لشيعي قط، فضلاً عن أن يريقوا دماً حراماً. ومن شذ منهم، فشذوذه على نفسه.
فمالذي يسعى إليه [حزب الله] وقد ضمن الدستور اللبناني لكل الديانات، والطائفيات، والعرقيات حقها، وعاشت لبنان في ظل هذا الدستور آمنة مطمئنة، يقصدها المصطافون، والمتسوقون، والمؤتمرون، واللاجئون، وينتشر أبناؤها في أنحاء العالم، وفي المملكة خاصة [شيعيهم، وسنيهم، ودرزيهم، ونصرانيهم ]على حد سواء، يمارسون كافة الأعمال، ويمدون دولتهم بالعملة الصعبة، والسمعة الطيبة. إنه العقل العربي المصلوب بدون جريرة.
فمتى يأذن الله بترجله؟.
والمتابع يجد ذات الجنون، وغياب العقل بالاغتيال، أو الصلب، أو التغييب في [بغداد ] الرشيد، عيبة الحضارة العربية.
وفي [دمشق ] الأمويين موئل البطولة، والفداء، ومرقد أبي سليمان [خالد بن الوليد ].
وفي [اليمن ] السعيد منشأ العروبة، ومأرز الحلم، والأناة.
ودعك من ويلات [القارة السوداء]، في [ليبيا] و[السودان ] و[الصومال] و[الصحراء] فكلها مغموسة في الفتن بأيد قذرة، ودسائس شيطانية، لاتريد الخير للأمة العربية .
ففي [العراق ]حُكْم صَفَوِيٌّ مجوسي، يطارد السنة، ويهمش الأكراد ويمارس التصفية الجسدية لكل من يحاول استقلال العراق، والتخلص من هيمنة المجوس. وهو بهذه المقترفات على أبواب تقسيم طائفي، وعرقي، إن لم يتداركه العقل المصلوب.
وفي [سوريا] حرب أهيلة، دامية، مدمرة، مستحكمة الحلقات، لا لشيء إلا لأن النظام نصيري، يمد بسبب إلى باطنية المجوس. وهاجس حاكمية الطائفية المقيت، هو أم الخبائث.
لقد سُلبت[سوريا ] و[العراق ] الحرية، والكرامة، والأمن، وانتهكت الإنسانية، ودمرت المنشئآت، وشرد المواطن من أرضه، بعدما أثخن العدو في الأرض.
وفي [الخليج ]نسمع فحيح الأفاعي في الإعلام، والمجالس النيابية، ينسل من سم الخلاف المفتعل في خليجنا الآمن، الثري بأرضه ورجاله. وإن لم يسبق العقلُ المجرب العاطفةَ الهوجاء، أذهبنا طيباتنا بسوء تصرفاتنا.
هذه الويلات تُنَفَّذ بأيدي المغرر بهم من المواطنين، الذين باعوا الوطن بثمن بخس. يقتل بعضهم بعضا. ويُهَجِّر بعضهم بعضا.
والحقد، والتوحش باديان على الوجوه، بعد عقود من التعايش، والتعاون، والتلاحم. فما الذي حدث؟.
إنه غياب العقل بالصلب، أوبالاغتيال. لقد طال أمد الفتن، حتى أصبحت سمة متأصلة مألوفة، وأصبحنا مصدر القلاقل للعالم كله.
المجوسية الحاقدة هي وحدها وراء الكثير من هذه المصائب القائمة، تذكيها، وتعمق العداوة، والبغضاء بين الأخ، وأخيه.
لقد استمرأ المسلمون القتل. وحل فيهم تحذير الرسول صلى الله عليه وسلم :- [ لاتعودوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ].
ولكن الهمجية، والوحشية تجاوزتا الحد المتوقع، بحيث أصبح الناس يُقْتلَون في أسواقهم، ودورهم، وفي مساجدهم، كما في [الدالوه] و[القديح ]في منطقتنا الآمنة.
فتحذير الرسول من حرب يلتقي فيها المسلمان بسيفيهما. أما اليوم فالمسالم، والأعزل، والمعتزل يلحق به أخوه، فيقتله. والاثنان لا يدريان، لا القاتل لماذا قَتَل، ولا المقتول لماذا قُتِل. إنه غياب العقل، أو صلبه، أو اغتياله.
فهل تحين ساعة الإفاقة، بحيث يترجل العقل من خشبة الصلب، ويوقف هذا النزيف المجاني؟. بحيث توضع السلطة في رداء يمسك كل طيف بطرف منه.
لقد كانت الراية السوداء البشعة بيد الاستعمار البغيض. ثم سلمها إلى الانقلابيين العسكريين الدمويين، ثم نزعها منهم، ووضعها بيد الطائفية المجوسية الدموية.
أحسب أن [عاصفة الحزم ] ليست حرباً وحسب، إنها تمثل عَصْفاً للعقل العربي، وصعقاً كهربائياً لإنعاشه. إنها الخطوة الثانية، بعد [الربيع العربي ] بل هي النسخة المصححة لأمل الشعوب العربية.
لقد كسرت قيد الخضوع، والخنوع، وأعادت الهيبة، وأيقضت الهمم، وكشفت زيف الادعاء، وأثبتت أن بني عمك فيهم رماح. فهل يعيها العقل العربي ؟
لقد مللنا القتل، وشبعنا من التدمير، وسئمنا من الخوف، والجوع، ونقص من الأموال، والأنفس، والثمرات.
صبرنا، واسترجعنا، وحوقلنا، وناشدنا الله الفرج، وحاولنا إيقاظ الضمير الإنساني، المتورط، أوالمتفرج، أوالمحرض، ولكن استغاثتنا لم تلامس أذانا إنسانية، ولم تعها عقول مدركة لمآلات الفتن العمياء.
العالم العربي لما يزل يجتر الضجر، كألف قطيع تجتالها ذئاب جائعة آمنة.
قَبِلْنا بالحدود الجغرافية، التي أطلقها الماكرون، وصدقها المغفلون. وقد أصبحت اليوم واقعاً لا مناص من قبوله، والتحرك على ضوئه.
وقبلنا بالتفاوت الطبقي في كل وجوه الحياة، وإن ساعدت على التمزق.
وصطلينا بالحرب الباردة التي نشرنا من خلالها ما كنا نخفيه عن بعضنا، وكشفنا به عن سوآتنا.
ورضينا بأشياء لا تخدم المصالح، ولا تحقق القوة، ولا تهيء المجال للتعاون على حفظ أدنى حد من عيش الكفاف، وصيانة الكرامة. كل ذلك نتجرعه، ولا نكاد نسيغه.
أما أن تغرينا أطماع المجوس على أن يقتل بعضنا بعضاً، وأن نمارس الوحشية بالإنابة، وأعداؤنا مُتَّكئون على الأرائك، يصدرون الأوامر، ويحركون الدمى على مسرح العرائس، ويمدونهم بالسلاح، والمدربين، فذلك العار، والشنار، وغياب العقل. إنه واقع أمتنا العربية الذي طال أمده.
لقد غُيِّب إنسانها : عندما كان [الرجل المريض ] يقاوم التآمر العالمي ضده. وعندما سقط، واقتسمت تركته الدول الغربية. وعندما بدأت الانقلابات العسكرية التي دمرت كل شيء أتت عليه.
ولما يزل مسلسل الغباء، واغتيال العقل، يُقَدِّم حلقاته على مسرح البُلْه، والمعتوهين، مسرح الدمى المُحَرَّك بأصابع الغدر، والخيانة.
ولما تزل الكبرياء الزائفة تأز مشاعرنا، وكل مُدْنَفٍ يَتَمْتِم :-
[لنا كِبْرُنا، كم طَالَ في التَّيْه دَرْبُنا
وكم نَفَضَتْ أقدامُنا من تُرابه
وقوفاً يَرانا الموتُ نُخْفِي جِراحنا
وليس يَرانا رُكَّعاً بانتظاره ]
إن بوادر الصحوة متاحة لكل عربي. فهل ندرك حجم مايراد بنا من أعدائنا، وما يُراد لنا من قادتنا المخلصين الناصحين، وننهض من كبوتنا، ونعانق طموحات [النذير العريان] الذي اتخذ قرار الحرب، وهو أصعب قرار، وأخطر قرار؟.
إننا حين لا نحسن إدارة المرحلة، فإننا سنخسر آخر الفرص.
[عاصفة الحزم] آخر سهم في كنانة الوعي العربي، إنها تؤسس لمستقبل واعد. ولا سيما أن مناطق النفوذ المجوسي، لما يزل أمرها في سفال، والمجوس يترنحون أمام الضربات، وفداحة الانفاق، وتعدد المهمات غير المقدور عليها.
فهل نكسر القيد عن العقل العربي، ليتلقى الراية باليمين كما [عُرَابة]؟
ذلك هاجس المسكونين بالهم العربي.