د. عثمان عبدالعزيز الربيعة
هذا التصريح من جنرال إسرائيلي هو أغرب تصريح سمعته. قال الجنرال (سامى تورجمان) - قائد اللواء الجنوبي- (إن إسرائيل وحماس تملكان أهدافاً ومصالح مشتركة، ولا يوجد بديل لحماس كسلطة سيادية فى قطاع غزة). وأوضح الجنرال ما يعنيه بالنقاط التالية:
-- أن البديل هو الجيش الإسرائيلي أو فوضى السلطة التى لا تقدر على فرض سلطتها هناك، حيث توجد تنظيمات متطرفة لا يلجمها إلا حماس.
-- أن السكان يرون فى حماس عنواناً (مرجعاً) لحل مشكلاتهم، ونحن أيضاً نريد عنواناً، وإلا سيصبح الموضوع الأمني أكثر إشكالاً.
-- كلا الطرفين يريدان الهدوء من أجل النمو والازدهار؛ فهم (أي حماس) يريدون هدوء المواطنين، وفى نفس الوقت تطوير الجانب العسكري - ولا نستطيع منعهم من ذلك - ولكنهم لا يريدون الجهاد العالمي، فهو يهددهم ويهددنا.
-- هناك مصلحة مشتركة فى أن لا تحدث أزمة إنسانية فى غزة.
(مقتبس من الشرق الأوسط فى 13-5-2001).
ما قاله الجنرال إنما هو تغطية لمصلحة مشتركة أكبر، لم يذكرها. فإن بقاء حماس صاحبة للسلطة المهيمنة فى غزة ومحافظة على هدنة هادئة وطويلة مع إسرائيل سوف يعزز الانشقاق الفلسطيني ويبقى الضفة الغربية تحت سلطة مهادنة متعلقة بقرارات دولية لا تنفذ، بينما الاستيطان يقضم الضفة تدريجيا حتى يجعل من إقامة دولة فلسطينية بحدود 67 دخاناً من غير نار وحلماً بعيد التحقيق. وهذا ما تريده إسرائيل، ولا يهمها بعد ذلك أن حماس لن تعترف بدولة إسرائيل، لأنها تتخذ من عدم الاعتراف ذريعة لرفض الاتفاق مع الفلسطينيين بشأن الدولة الفلسطينية. وتلك هي نقطة الالتقاء الرئيسية (أو المصلحة المشتركة الحقيقية) التى عناها الجنرال ولم يذكرها. كلاهما لا يريد دولة على جزء من أرض فلسطين لدوافع إيديولوجية مختلفة. إسرائيل تريد اغتصاب ما تسميه (أرض الميعاد) رويداً رويداً من خلال التوسع الاستيطاني، وتستفيد من عدم اعتراف حماس بها وتطرف برنامجها السياسي فى الادعاء بتهديد وجودها وأمنها وانتزاع الإمداد بالأسلحة الحديثة والدعم المالي والسياسي من حليفتها الكبرى: الولايات المتحدة.
فى إسرائيل يعيش الآن (2013) ستة ملايين إسرائيلي يهودي، ومليون ونصف عربي فلسطيني؛ أما فى الضفة الغربية فهناك (2,8) مليون فلسطيني وفى غزة (1,8) مليون فلسطيني؛ ويستوطن فى الضفة الغربية - بطريقة غير شرعية- (370) ألف إسرائيلي - وقد كانوا فى عام 2000 نصف هذا العدد. أما حماس فهي من جانبها لا تريد دولة فلسطينية على جزء من أرض فلسطين، لأن ميثاقها الأساسي الذى يوجه برنامجها السياسي يعتبر كامل أرض فلسطين وقفاً لا يحق لأحد أن يتصرف فيه، وهدفها هو إقامة الدولة الفلسطينية على كامل التراب الفلسطيني. فعلى ماذا تعوّل حماس فى تحقيق هذا الهدف ؟ من منطلق كونها حركة إسلامية ناشئة من صلب جماعة الإخوان المسلمين، فقد تعوّل على تحقيق حلم دولة الخلافة الإسلامية، ومن منطلق كونها حزبا ذا برنامج سياسي فإنها قد تعوّل على أن يحدث انقلاب على السلطة كما حصل فى غزة عام 2007، وتنشأ دولة فلسطينية (مؤقتة) بحدود عام 67 إلى حين تحقيق الحلم. ثم ماذا ؟ هل هي ستحارب إسرائيل - أو تستفزها على الأقل كما فعلت فى غزة أكثر من مرة - وفى كل مرة تقوم إسرائيل بالتدمير والهدم والتقتيل أو الاحتلال، ثم تبدأ الكرّة من جديد؟ أم تنتظر حماس قيام دولة الخلافة الإسلامية، ثم تمتشق سيف صلاح الدين الأيوبي لتحرير فلسطين ؟ هذا ليس استهزاءً، بل تعبيراً عن الابتعاد عن الواقع بتحويل الهدف إلى حلم، بدلاً من تحويله إلى واقع. وقد يتحول الحلم نفسه إلى كابوس إذا ظل اللاجئون فى مخيماتهم، والفقر والظلم ينغصان حياتهم، وعامة الشعب الفلسطيني محروم من نعمة الاستقرار والعيش فى وطنه آمناً موفور الكرامة.
سنسمع من يرفع شعار (حرب المائة عام) الذى قاله وطنيون عرب للحبيب بورقيبه ذات يوم، عندما نصحهم بالسلام مع دولة إسرائيل. وها قد مضت خمسون عاماً من تلك المائه، فهل أصبح وضع العرب والفلسطينيين أفضل حالاً ؟ واقع اليوم لا يؤكد ذلك. بالنسبة للفلسطينيين كانت هناك (منذ عام 1964) منظمة واحده تنطق باسمهم، هي منظمة التحرير الفلسطينية (أي قبل تأسيس حركة حماس بثلاث وعشرين سنة)، وزعيم واحد، هو ياسر عرفات، وتبنت المنظمه برنامجاً سياسياً واقعياً هدفه إقامة دولة فلسطينية على الأرض المحتلة؛ وحتى العرب اتفقوا على هذا الهدف (المبادرة العربية عام2000). أما الظهر العربي الذى كان يستند عليه الفلسطينيون فلم يعد قويا وصلباً، بل تضعضع، فلم يعد قادراً على إسناد نفسه، فكيف بغيره. صدام حسين غزا الكويت بدلاً من تحرير فلسطين، ومن بعده صارت إيران تحكم العراق من خلال عملائها، والشعب السوري يواجه الإبادة من حكامه (أبطال الصمود والتصدى!)، ولبنان ممزق بين طوائفه، ومصر شبعت من خوض حروب خاسرة، وهي مشغولة الآن بمحاربة أعدائها فى الداخل. وإسرائيل من ناحية ثانية دمرت مفاعل العراق الذري (عام1981) ومواقع مشروع مفاعل ذري فى سوريا (2007) ولم يقابل ذلك ردود فعل مكافئة. وكذلك دمرت إسرائيل البنية التحتية فى لبنان ومواقع حزب الله فى حرب (2006)، حتى أن حسن نصرالله تمنى - لو علم أن ذلك سيحدث - لو لم يستفز إسرائيل. ودمرت إسرائيل كذلك البنية التحتية فى غزة وهدمت المساكن على رؤوس أهلها فى عامي (2008 , 2014) رداً على إطلاق حماس لصواريخ على المدن الإسرائيلية. وهكذا فإن أهداف المواقف الثورية إذا اختزلت إلى مجرد إعلان بطولات وتسجيل مواقف أتت بنتائج عكسية تصب فى مصلحة العدو، ويكتوي بنارها الشعب المغلوب على أمره.
إن مصلحة حماس يجب أن تلتقى مع مصلحة الشعب الفلسطيني، وهي تخليصه من البؤس الذى يعيشه والبؤس الذى يحيط به؛ من خلال دولة فلسطينية فيديرالية (اتحادية) تقام على الضفة الغربية وقطاع غزة بحدود 67، إن هذا يتطلب من حماس أن تعيد النظر فى برنامجها السياسي غير الواقعي، وأن توحد أهدافها مع السلطة فى رام الله، بحيث تكون هناك مرجعية فلسطينية واحدة. إن ذلك سيقضى على ظاهرة التمزق والتخاصم المؤلمة والمزمنة، وسيحقق اعتراف العالم بدولة فلسطين وسيبطل حجج إسرائيل فى الاستيطان ويهودية الدولة (باعتبار ذلك عملاً عنصرياً).
إن واقع دولة فلسطينية تقام بحدود 67 سوف ينهى الوضع المأساوي لشعب فلسطين، ويمكّنه من أن يعيش حرّاً مستقلاً وآمناً؛ بل سيجعل المنطقة كلها مستقرة وآمنة من اتخاذ بعض الدول والحركات المتطرفة القضية الفلسطينية ذريعة لبسط نفوذها وهيمنتها على شعوب المنطقة، وكلما طال أمد القضية ازداد الرقص على أنغامها الحزينة؛ وهنا تلتقى المصلحة المشتركة بين إسرائيل والدول والحركات المتطرفة فى استمرار مأساة الفلسطينيين وتعطيل قيام الدولة الفلسطينية.