محمد أبا الخيل
في جانب من ساحة (يونيون سكوير) في وسط مدينة سان فرانسسكو وفي مقهى مفتوح للهواء الطلق، كان هناك يرمقني بنظراته، وما أن لاحظت ذلك حتى تبسّم، فبادلته الابتسامة، كان يبدو عربي السحنة، وهم كثر في هذه الوقت من السنة حيث يكثر السياح العرب في أمريكا، وخصوصاً السعوديين والخليجيين بصورة عامة، نظرت له مرة أخرى لأتحقق مما إذا كنت أعرفه، ومرة أخرى ابتسم وقام من مكانه متقدماً نحوي، وما أن اقترب حتى بادرني « ألست فلاناً، الكاتب في الجريدة، فقلت: «بلى، أنا هو»، فاستأذن في الجلوس معي والحديث، فرحبت بذلك،
وبدون مقدمات سألني «ما موقفك من هذه الحرية؟» فقلت: «ماذا تعني بهذه الحرية؟» قال: «حرية التفسخ وحرية السفور وحرية التعرّي وحرية الشذوذ وحرية التصرفات الجنسية في الأماكن العامة»، قلت: القانون هنا يبيح ما ذكرت ضمن أُطر معينة، وهذا مجتمعهم وهم من ارتضى بهذه الممارسات، فموقفي ليس له حساب، فأنا مثلك زائر وليس لي إلا أن أتعايش مع ما أرى أو أعود لبلادي فهذا شأنهم، قال: «كيف تتعايش مع واقع دون أن يكون لك رأي؟.. فإما تقبله أو ترفضه أو تجد وسيلة ما لتبرر التعايش معه»، قلت: «المجتمعات تتأسس على نمط معيشي يشمل العادات والمعتقدات والسلوكيات، وبقدر ما تكون تلك المجتمعات متجانسة يتجانس الناس فيها في نمطهم المعيشي فتجد لبسهم واحداً ودينهم واحداً عاداتهم واحدة وحتى طعامهم واحداً، وعندما تتفاعل المجتمعات مع بعضها
وتتواصل، تتبادل في مكونات الأنماط المعيشية، وهكذا تتكون المجتمعات المختلطة، ومع تنامي تواصل المجتمعات بالصورة التي نراها اليوم يحدث تبادلٌ أكبر، فكما ترى هنا مختلف الهيئات في اللبس والسلوك والتي تبرز عرقية صاحبها أو معتقداته الدينية أو فلسفته تجاه الحياة، إذاً هذه الحرية هي تراكم لقبول هذه التنوع لدى هذه المجتمعات، وهذه الحرية التي تراها اليوم تبيح هذه التّفسخ والشذوذ، هي التي تبيح لك حرية أن تبني المسجد وتؤذن للصلاة، وهي الحرية التي تحمي خياراتك في لبس ما تشاء، وهي الحرية التي تحفظ حقك في تعلُّم ما تشاء، لذا أنت لست مطالباً بموقف رافض أو قابل للحرية، أنت وبناء على ما تختزن من قيم دينية واجتماعية تقبل أو ترفض تجليات للحرية، فكما يروق لك أن تمارس خياراتك بحرية، هناك شخص آخر مختلف يريد أن يمارس خياراته بحرية، إذاً الحرية هي القانون، وهي الثقافة الجمعية التي تجعل الإنسان يحقق مبتغاه من المجتمع، والحرية هي التي تحمي حريات فرعية أخرى، فحريتك في أن تسير في شارع آمن ونظيف وخالٍ من المناظر المزعجة يجعل حرية الأذى والقذارة والإزعاج ممنوعة ومقيَّدة، وحريتك في الهدوء في منزلك وتنفُّس الهواء النظيف يجعل حرية تلويث الهواء والضوضاء حرية مقيّدة، لذا يا صاحبي ما تراه مما لا يسرك ولا يسرني بالتأكيد هو الجانب الآخر من الحرية، الذي لا تود أن تراه، لذا ما عليك إلا أن تغض الطرف وتستمتع بالحرية التي تمنحك حقوقك، قال: «ولكن نحن مسلمون وملزمون بتحديد الحرية بما لا يجرح مشاعر الآخرين، وأنا وكثير مثلي تجرح مشاعرنا هذه المناظر من التّفسخ الأخلاقي، وقد أُمرنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنا لا أقصد أن أمنع هؤلاء من تفسخهم بالقوة ولكن بالكلمة الطيبة، فما موقفك أنت من ذلك؟»، فقلت: «يبدو أنك تعتصر مني موقفاً محدداً، لذا سأوجز لك، أنت حر فيما تشعر تجاه ما ترى، وأنت أيضاً حر في أن تقف وتدعو الناس لأي فكرة بما فيها الأمر بالمعروف - بالتأكيد ستحتاج موافقة من بلدية المدينة لتأمين المكان المطلوب لك، وتأمين الحماية لك من تعدي من لا يرى فيما تقول مناسباً له - وربما هذا الأمر سيجلب لك بعض العناء أو الرضا الذاتي، ولكن دعني أبيّن لك مفهوم (غض البصر) عندي وربما تجد فيه فائدة تعفيك من بعض العناء، حيث أرى أنه يتحقق بحال من حالتين، الأولى هي صرف النظر عما لا يليق النظر له أو لا يجوز، وهذه تحتاج قدراً منالتدريب والاحتمال، وقد يستلزم الابتعاد عن أماكن كثيرة يجتمع بها الناس، والحالة الثانية وهي غض البصر بمعنى إهمال ما لا يليق وما لا يجوز حتى ولو وقع النظر على ذلك مباشرة، وهذه أيضاً تحتاج تطويعاً للنفس على عدم الإكتراث بتلك المشاهد المؤذية وترديدها في الخاطر وذكرها عند الآخرين وتذكرها في خلوات النفس، فهذا يجعلها تنطبع في الذهن وتؤرِّق صاحبها.. فمن الناحية الفيزيائية يتعرض الإنسان وهو يسير في الشارع لآلاف اللحظات من المناظر وتتلقاها العين لتبعثها للذاكرة المؤقتة وتختزن منها في الذاكرة الدائمة ما يستثير الاهتمام، وتهمل معظمها، فالإنسان لا يختزن في ذاكرته سوى أقل من (0.001 %) مما تتلقاه عيناه، فهنا يكون غض النظر في إهمال ذلك الكم الهائل من المناظر غير المقبولة وتخزين المناظر المقبولة، وهنا تصبح المناظر السيئة كأن لم تكن، أطرقَ لحظة ثم نظر لي وقال: «أكتب هذه النقاش في مقال لك في المستقبل»، فقلت: «إن شاء الله» ونسيت الأمر وتذكرته عندما كنت نهاية الأسبوع الماضي في دبي، وإذا برجل مثل صاحبي يناقش سائحاً غربياً عن لباسه ويبدي امتعاضه.