د. عبدالحق عزوزي
تتمة لما تحدثنا عنه الأسبوع الماضي عن محاضرتنا في مركز الملك فيصل للدراسات والبحوث الإسلامية، هناك تقريباً سبعة عشر بُعداً للاستراتيجية -كما يقول كولن إس. جراي- هي:
الأشخاص، والمجتمع، والثقافة، والسياسة، والأخلاق، والاقتصاد والإمدادات اللوجستية، والمؤسسة، والإدارة، والمعلومات والاستخبارات، والنظرية الاستراتيجية والعقيدة، والتقانة، والعمليات، والقيادة، والجغرافيا، والاحتكاك/ المصادفة/ التوجس، والخصوم، والزمن. وهذه الأبعاد يجب أن تؤخذ بالحسبان بكليتها، أي باحتساب كل بعد منها فردياً، دون إغفال أي منها، مع احتساب تأثير البعد الواحد في سياق علاقته بالأبعاد الأخرى.
ثم إن غرض الاستراتيجية هو ترجمة الغرض السياسي (الهدف الوطني، والمصالح القومية، ودليل السياسة) إلى تأثيرات تشكل البيئة الاستراتيجية على النحو المفضل. وهي شاملة في نطاق رؤيتها ومحدَّدة في حقل تنفيذها. فالاستراتيجية تُعنى بالمستقبل، وتحليل المشكلات وتجنبها، وتؤدي هذه المهمة من خلال تقويم دقيق للبيئة الاستراتيجية لتحديد وانتقاء العوامل الاستراتيجية الأساسية التي يجب أن تعالَج لخدمة مصالح الدولة بنجاح. ومن خلال تحليل هذه العوامل وتقويمها، فإن الاستراتيجية تُنتج بياناً معقولاً يتضمن الغايات والطرائق والوسائل التي تخلق تأثيرات تؤدي إلى المستقبل المنشود. وبذلك، فإن الاستراتيجية تخدم هدف السياسة، وتضمن المرونة والقدرة على التكيف، وتضع الحدود من أجل التخطيط السليم.
وتتضمن الرؤية الشخصية لصانع السياسة، أو الخبير الاستراتيجي، نظرة موضوعية للبيئة الحالية، وتقويماً مسبقاً لنتائج الاستمرارية والتغيير داخل هذه البيئة، بصورة تضمن ازدهار بلاده في المستقبل. ومع أن الخبير الاستراتيجي يعترف بأن المستقبل لا يمكن التنبؤ به على نحو دقيق، فإنه يعتقد بأنه يمكن التأثير فيه، وتشكيل ملامحه للوصول إلى نتائج أفضل. وإذا قلنا إن الإستراتيجية لصيقة بالمستقبل، فلأنها تُعنى به، وتحاول تجنب المشكلات المستقبلية الممكنة أو ردعها أو حلها، وهذا هو عمل الإستراتيجي وشغله الشاغل، ويكفي الرجوع إلى تعاليم الشريعة الإسلامية السمحة لتمثل ذلك؛ ففي مجال الإستراتيجية الحربية والأمنية، يطلب منا القرآن الكريم أخذ الحذر والاستعداد لكل المخاطر المستقبلية الممكنة التي هي في علم الغيب، والتي بإمكانها أن تقع؛ فيقول الحق عز وجل: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} (سورة الأنفال، الآية 60). فأمر الله تعالى عباده المؤمنين بأن يجعلوا الاستعداد للحرب التي علموا أن لا مندوحة عنها لدفع العدوان والشر، ولحفظ الأنفس ورعاية الحق والعدل والفضيلة، بأمرين: أولهما، إعداد جميع أسباب القوة لها بقدر الاستطاعة؛ وثانيهما، مرابطة فرسانهم في ثغور بلادهم وحدودها، وهي مداخل الأعداء ومواضع مهاجمتهم للبلاد، والمراد أن يكون للأمة جند دائم مستعد للدفاع عنها، إذا فاجأها العدو على حين غرة قاومه الفرسان، لسرعة حركتهم، وقدرتهم على الجمع بين القتال، وإيصال أخبار العدو من ثغور البلاد إلى عاصمتها وسائر أرجائها، ولذلك عظّم الشارع أمر الخيل وأمر بإكرامها. وهذان الأمران هما اللذان تعول عليهما جميع الدول، إلى هذا العهد الذي ارتقت فيه الفنون العسكرية وعتاد الحرب إلى درجة لم يسبق لها نظير، بل لم تكن تدركها العقول ولا تتخيلها الأفكار.
ومن المعلوم بالبداهة أن إعداد المستطاع من القوة، يختلف امتثال الأمر الرباني به باختلاف درجات الاستطاعة في كل زمان ومكان بحسبه، وقد روى مسلم في صحيحه عن عقبة بن عامر أنه سمع النبي (صلى الله عليه وسلم) وقد تلا هذه الآية على المنبر يقول: «ألا إن القوة الرمي «قالها ثلاثاً»»، وهذا كما قال بعض المفسرين من قبيل حديث «الحج عرفة»، بمعنى أن كلاً منهما أعظم الأركان في بابه، وذلك أن رمي العدو عن بعد بما يقتله أسلم من مصاولته على القرب بسيف أو رمح أو حربة، وإطلاق الرمي في الحديث يشمل كل ما يُرمى به العدو من سهم، أو قذيفة منجنيق، أو قذيفة بندقية أو مدفع أو طيارة، وغير ذلك، وإن لم يكن كل هذا معروفاً في عصره (صلى الله عليه وسلم)، فإن اللفظ يشمله والمراد منه يقتضيه، وحتى لو كان قيّده بالسهام المعروفة في ذلك العصر، فكيف وهو لم يقيده.
ثم إنه في مجال الإستراتيجية، لابد للخبير الإستراتيجي أن يفهم الفرق بين الإستراتيجية والتخطيط، لكي يقوم بصياغة إستراتيجية جيدة؛ ولابد للمخطط أن يفهم أوجه الاختلاف بين التخطيط والإستراتيجية، لكي ينفذ الإستراتيجية بنجاح تام. والتخطيط ضرورة لتنفيذ الإستراتيجية، ولكن عقلية المخطط يجب أن تكون مختلفة عن عقلية صانع الإستراتيجية.
وفي أدبيات العلاقات الدولية والإستراتيجية، هناك إجماع على أنه يجب على محترفي الأمن القومي أن يكونوا مدرَّبين على ضرورة التيقن في التخطيط من خلال معطيات حياتهم المهنية، خلافاً لمجال الإستراتيجية المبنية على بُعد نظر في بيئة معقدة ويطبعها الشك وعدم اليقين؛ وعلى المخطط أن يكون علمياً في مقارباته، ومفاهيمه، وتطبيقاته، بينما على الإستراتيجي أن يكون أكثر عمومية. وإذا قام المخطط أثناء التنفيذ بربط مفاهيمه مع تلك المتعلقة بالإستراتيجي (مع أن الخطة ناجحة)، فإن التأثيرات الإستراتيجية الناجمة عن دعم مثل هذا التصور، قد تفشل، وقد يكون لها مفعول عكسي. وعلى المفكر الإستراتيجي أن يكون صاحب قدرة كبيرة على تطبيق نظرية الإستراتيجية في العالم الواقعي، وأن يجمع بين مجالي الفن والعلم، وضرورة خلق توليفة تجمع حسابات التقلب، والتوجس، والتعقيد، والغموض، التي تطبع البيئة الدولية الحالية، أو لنقل البيئة الإستراتيجية
وأنا أستحضر هذه المعطيات الدقيقة في مجال الإستراتيجية والعلاقات الدولية، أتوقف عند تقرير كان قد أنجزته لجنة من مستشاري البيت الأبيض، تحذر فيه الرئيس باراك أوباما، من عدم توجيه وكالات الاستخبارات الأمريكية اهتماماً واضحاً إلى الصين، ومنطقة الشرق الأوسط، والمناطق التي تُعتبر تهديداً للأمن القومي، نظراً للاستحواذ الزائد على العمليات العسكرية، وغارات الطائرات من دون طيار (درونز)، ومرد ذلك، وهذا، هو بيت القصيد، أن أدوار وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي أيه)، ووكالة الأمن القومي، ووكالات الاستخبارات الأخرى، انحرفت بطريقة كبيرة عن مسارها الأصلي؛ وهذه اللجنة تعي ما تقول، وهي التي قادتها شخصيات متميزة
ما يقع اليوم داخل مطبخ الأمن القومي الأمريكي، هو هذا الخلط بين عمل المخطِّط وعمل الإستراتيجي، وبين العملين وعمل السياسي، أي الممارس السياسي الإستراتيجي الذي عليه أن يفهم بشكل كامل مستويات الإستراتيجية وعلاقاتها، وبطور إستراتيجية محددة.
وكما جاء مؤخراً في مقالة لجريج ميلر في صحيفة واشنطن بوست، وهو من المساهمين في التقرير السالف الذكر، وسبق وأن تولى رئاسة وكالة الـ»سي آي أيه»: «قال جون برينان، مستشار أوباما الأسبق لمكافحة الإرهاب، للكونجرس في فبراير إنه خطط لتقييم «توزيع المهام» في الوكالة، ووصف مدى مشاركة الوكالة في عمليات القتل، بأنه «انحراف عن مهمتها التقليدية»». وأوضح مسؤولو الوكالة، أن أي تعديل لمسار الوكالة يُتوقع أن يكون تدريجياً، وليس دفعة واحدة، وأحد الأسباب وراء ذلك، هو القلق الحذر بشأن تهديد «القاعدة». لكن سبباً آخر يتمثل في النفوذ الذي تمارسه مؤسسات مكافحة الإرهاب، مثل مركز مكافحة الإرهاب التابع للوكالة، والتي توسعت خلال العقد الماضي. حتى إن برينان، أكد أن الوكالة لن تتخلى عن أسطولها من الطائرات من دون طيار، قائلاً في ردود مكتوبة على أسئلة قدمها له أعضاء الكونجرس، في إطار التأكيد على أن الوكالة «تمتلك تاريخاً شبه عسكري، وينبغي أن يستمر كي تتمكن من توفير هذا الخيار للرئيس»،لكن، التقرير السري السابق للمجلس الاستشاري، يعكس قلقاً أوسع بشأن الملامح الأساسية للوسيلة التي يتم بها تنفيذ عمليات مكافحة الإرهاب، بعد 12 عاماً من بدايتها.
ويُذكر أن برينان، قاد العام الماضي الجهود لفرض قيود صارمة بشأن القتل المستهدف للمشتبه فيهم بالإرهاب في الخارج. وقد أُجبرت الإدارة خلال الأسابيع الأخيرة، على كشف التفاصيل الخاصة بالأسس القانونية لغارات الطائرات من دون طيار على مواطنين أمريكيين في الخارج، وسط مناقشات حادة في الكونجرس بشأن السرية المحيطة بمثل هذه القرارات. ويدرس البيت الأبيض أيضاً إمكانية منح وزارة الدفاع مزيداً من الرقابة على حملة الطائرات من دون طيار، وخفض دور وكالة الـ»سي آي أيه»، رغم إشارة المسؤولين إلى أن التغيير قد يستغرق سنوات، وقد لا يتضمن عمليات الطائرات من دون طيار في باكستان....