د. عبدالحق عزوزي
أصدر زميلنا الدكتور جمال سند السويدي كتاباً بعنوان «السراب» هو الآن في طبعته الخامسة... والكتاب يشير إلى آثار الزج بالدين في السياسية والسياسة في الدين على البلدان العربية والمسلمة، ومن الأحزاب المنضوية فيها من قضت نحبها ومنها من تنتظر ومنها من
رزقت بذور الحكمة وبدأت تتساءل عن تلك العصمة وتلك القداسة وتلك الحلول السحرية للمجتمعات التي كانت تدَّعيها... فصندوق الانتخابات يمكن أن يُوصل الحزب الإسلامي إلى الحكم ولكنه ليس كافياً للحكم، وهذا كلام في غاية الدقة... فبدون سند رجال الإدارة أو لنقل رجالات الدولة وبدون رجال الأعمال والمستثمرين لا يمكنك أن تبني دولة بل وحتى مؤسسة بسيطة، زد على ذلك أنه من يريد أن يمثِّل شريحته وأتباعه فقط فإنه يبقى معزولاً في الداخل والخارج قبل أن يتحجّر عقله ويصبح أكثر سلطوية وأكثر دكتاتورية... فالفرد ليس له سلطة مطلقة لأن الحكم يقوم على نظام دقيق ومؤسسات محددة...
ولله در الزميل مشاري الذيدي، عندما تناول قصة داعش كاتباً في جريدة الشرق الأوسط: «هل المشكلة هي «داعش» فقط؟ «داعش» منتج صريح لمصنع نشط، عمل، وما زال، على إنتاج الثقافة التي توجد المخلوق الداعشي. أتى هذا المخلوق الداعشي من عناوين مثل: الحاكمية، وجاهلية القرن العشرين، وفتية الإيمان، والطليعة المؤمنة، والجماعة المسلمة، وغيرها مما تعج به عشرات الكتب والرسائل والخطب والمقررات، والأناشيد، والكلمات، في المدارس وخارجها، على مدى عشرات السنين، ومنبعها الرئيس، وليس الوحيد، كان إخوان مصر ومعهم إخوان سوريا والأردن وفلسطين. الظواهري تلميذ سيد قطب، ومن يقرأ كتاب الظواهري «الحصاد المر» يقف على القصة. في فيديو جديد للظواهري حديث عن علاقة أسامة بن لادن بالإخوان، وأن أسامة تلقى تكليفاً من المرشد القطبي الخطير مصطفى مشهور للعمل مع الجماعة في أفغانستان.
وعلى حيطان مدن الرقة ودير الزور، حيث خلافة «داعش»، كتابات من كلام سيد قطب.
«داعش» التي أثارت بركان الغضب الأردني مؤخراً، ليست غريبة الوجه واليد واللسان عن أبناء الفكر القطبي الإخواني. بمناسبة الأردن، كان لافتاً خروج منظِّر «القطبية السلفية» - هذا هو الوصف الأقرب ربما من «الجهادية السلفية» - على التلفزيون، بعدما أفرجت عنه السلطات الأردنية، للمرة الرابعة ربما، ليتحدث عن غدر «داعش» وتفاصيل مفاوضاته معهم لعقد صفقة إفراج عن الطيار الأردني معاذ الكساسبة.....» هذا الكلام الصحيح والذي يضع الأصابع على الجرح الخطير الذي يفتك اليوم بالشعوب والأوطان تقرأ عنه بعلمية وحرفية واستفاضة في كتاب السراب للدكتور جمال سند السويدي الذي بنى موقفاً فكرياً شمولياً للموضوع، وأنتج عقلاً إستراتيجياً سياسياً عربياً حداثياً هو قابل لأن يتداخل ويتفاعل نظرياً وعملياً مع المعضلات السياسية الداخلية والخارجية وقضايا الدولة والمجتمع، فيقدم خلالها معرفة منهجية، يُساهم بها في ترشيد التوجيه والممارسة: ممارسة علمية التغيير والتقدم.
وبحضور زمرة من المفكرين والباحثين والمهتمين ورجالات الدولة، نظم مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية منذ أيام ملتقى فكرياً قيّماً في موضوع «السراب الفكر المستنير في مواجهة الإرهاب» وهذا دأب المركز الذي يسهر على مناقشة القضايا المهمَّة التي تتصل بأمن المجتمعات واستقرارها وتنميتها، ليس على الساحة الخليجية أو العربية فقط، وإنَّما في العالم كلِّه أيضاً، من منطلق الإيمان بأن الفكر هو الأساس القويُّ الذي تنهض عليه الأمم.
وأوضح الدكتور جمال السويدي في تدخله إلى أن ما دفعه لتأليف كتاب «السراب» ثلاثة اعتبارات، الأول يتمثّل بالسعي للكشف عن حقيقة الجماعات الدينية السياسية وخطورة أفكارها لأنها برغم الفشل الذي لحق بها، سواء في صفوف المعارضة أو المواقع السلطة، إلا أنها لا تزال تمضي في طريق الخداع وتسويق السراب والوهم، وتقديم نفسها على أنها «الحل» على الرغم من أنها المشكلة الكبرى التي تواجه المجتمعات التي توجد فيها، والخطر الأشد على أمنها ووحدتها واستقرارها.
فيما الاعتبار الثاني يتمثّل في محاولة الإجابة على سؤال العلاقة بين الدين والسياسة، وهو السؤال الذي طرحته أوروبا على نفسها منذ قرون ومثّلت الإجابة عنه البداية الحقيقية لنهضتها وطي عصور الظلام والتخلف.
ولفت إلى أن الاعتبار الثالث لتأليف كتاب السراب يتمثّل في أن خطر الإسلام السياسي والجماعات المرتبطة به لا يهدد وحدة العديد من المجتمعات العربية والإسلامية وأمنها واستقرارها فقط، وإنما يشوّه صورة الإسلام نفسه...
وفي مداخلتي تناولت موضوعاً مستقبلياً تطرقت فيه إلى موضوع التيارات السياسية الدينية، وطبقت عليها تقنية السيناريوهات وهي التقنية التي تدخل ضمن إطار الأدوات المنهجية الأكثر تداولاً في الدراسات المستقبلية.
والفكرة المحورية للسيناريو: هو عبارة عن طريقة تحليلية احتمالية تمكّن من تتبع المسار العام لتطور الأحداث والظواهر، انطلاقاً من وضعها وحالتها الحالية، وصولاً إلى رصد سلسلة من التوقعات المستقبلية لهذه الأحداث والظواهر، ومن ثم يمكن القول إن السيناريو هو عبارة عن لعبة فرضيات تمكِّن من فهم التحولات البنيوية التي قد يتخذها تطور نسق معين.
ووضعنا الثلاث السنوات الأخيرة 2012-2015 كسنوات الأساس، وسنة 2030 كسنة الاستشراف، وبالتالي نتنبأ حول مصير التيارات الدينية - السياسية، معدل استقرار الأنظمة السياسية وعلاقتها بالمجال الديني السياسي - نضج المجال السياسي العام ونضج كل الفاعلين السياسيين، ومن ثم صغت السيناريوهات على أساس الاتجاهات المستقبلية الممكنة.
ولا غرو أن هاته السيناريوهات لها مقصدان أساسيان يتجليان أولاً في تنبيه صانع القرار (بل وحتى الرأي العام) بطبيعة المشاكل والنتائج التي يمكن أن يترتب عليها عن اختيار مسار معين، تمكنه من تكييف القرارت السياسية وبلورة سياسات عمومية وثانياً قد يؤدي السيناريو إلى تعبئة صانع القرار في التخطيط أو التقويم، وبما أن المقام لا يسمح هنا بالتفصيل، فقد صغنا السيناريوهات على أساس الاتجاهات المستقبلية التالية:
- السيناريو الاتجاهي أو الخطي: (أفول التيارات الدينية السياسية): وهو السيناريو الذي يفترض استمرار أفول التيارات الدينية السياسية في المستقبل كما وقع في مصر، وهذا يستلزم نضجاً متزايداً لدى شرائح المجتمع للتأثير على مجريات الأحداث السياسية والاجتماعية، وتعاوناً دولياً مستمراً لإزالة المسببات وما تحت حشائش الإرهاب في ظل العولمة حيث تتقاسم المجتمعات مخاوف متشابهة ومتباينة، وإعادة ترتيب الخرائط السياسة واستئصال الجمرات المذهبية الموجودة هنا وهناك وإعادة بناء الدول الفاشلة والمنظومة العربية.
- الاتجاه الإصلاحي: هذا السيناريو يركز على حدوث تغيرات وإصلاحات على الوضعية الحالية للظاهرة موضوع الدراسة، وهو توفر الناخبين على قوة الذاكرة وعدم إيصال تلكم التيارات إلى المجال السياسي العام مرة أخرى، وإحداث ثورة إيديولوجية تجعل الأحزاب السياسية الدينية تتخلى عن مسائل الزج بالدين في السياسة والسياسة في الدين، وتتحول إلى أحزاب محافظة فقط على شاكلة الأحزاب المحافظة الأوروبية، والاستثمار الفعّال في العامل البشري لإنقاذ الأجيال انطلاقاً من نوعية منظومة التعليم المدرسي في أوطاننا...
- السيناريو التحولي أو الراديكالي (التشاؤمي): يتم الاعتماد في إطار هذا السيناريو على حدوث تحولات تصب في مصلحة التيارات الدينية الإسلامية بما فيها المتطرفة؛ فإذا لم يزل الداء من أصوله كالتنظيمات الجهادية (في وجودها وفكرها) فكأنك تقطع فقط جزءاً من جناح الفيروس وهو سريع النماء والتوالد.. وإذا لم تتفنن النخبة السياسية في الحكم في تحقيق المصالح بما في ذلك إقامة العدل والعدالة وتحقيق التنمية، فإننا سنكون أمام هذا السيناريو التشاؤمي.. وإقامة العدل والعدالة وتحقيق التنمية هي مفاهيم لمعادلة توازنية مجتمعية واحدة.