د. محمد البشر
أيها الشهر الكريم حللت بقلوبنا فأهلاً بك, وقطنت في عقولنا فمرحباً بك, وزرعت الأمل في نفوسنا فسعداً بك, لا قادم أجمل منك, ولا زائراً أثمن منك, ولا ضيفاً أعز منك, كرمك يفوق الوصف, ولمَ لا وأنت شهر العطاء, وشهر السخاء, وشهر البر, وشهر صلة الرحم, وفوق ذلك كله شهر الصلاة, وقراءة القرآن, مع صبر الصيام, فيا لك من شهر تجمّعت فيك الخصال الحميدة, وحفت بك المناقب العديدة, وتربعت على جميع الشهور, وملأت الأرض بالنور, وزرعت الأمل في الدور.
سيستقبلك الناس حباً فيك, ويفرحون بقدومك لهفةً عليك, وشوقاً إليك, فهنيئاً لهم بك, ضياؤك وهاج, وماؤك وجاج, وأبوابك فجاج, وسرابك ماء, وخُلبك عطاء, فنشيمك شوم الجون, ونرجو من الله العون, فخيرك سخ غدق, فكم من عبد قد عتق, عتق عن الذنوب والخطايا, وزاد حسنه في البرايا, فأصبح العبد الصالح, بعد أن كان الطالح, والإنسان الصادق, بعد أن كان في اللهو غارقاً, آب بعد أن ندم, وعاد إلى ربه فسلم, فأصبح معافى من الدرن, وصافياً من السقم, سقم القلوب, ووزر الذنوب, يتدبر القرآن تدبر العالم, ويقرأه كورش وحفص وأبي القاسم, قراءة المجود, الذي يحسن مخارج الحروف, ويعرف الواصف من الموصوف, يجيد الإدغام بغنّة وبغير غنّة, والمد بأنواعه, والوقوف في مواضع الوقوف, فيظهر منه القرآن جميلاً كما هو جميل, وبديعاً كما هو بديع.
لقراءة القرآن لذة, ولتدبره علم وبهجة, فلا أحسب صائماً قط سيحرم نفسه من قراءته, وختمه مرات إن استطاع مع التدبر, فهو شهر الصوم والصلاة والقراءة, وصوم الصبر مع السعادة, مع مواصلة العبادة.
في هذا الشهر الكريم, علينا أن نبتعد عن الهمّازين المشائين بنميم, والواشين الذين لا يلبثون أن يصدعوا العصا, والغواة الذين لا يتركون أديماً صحيحاً, والسعاة الذين ذكرهم الأحنف بن قيس, فقال: ما ظنك بقومٍ الصدق محمود إلاّ منهم.
أيها الصائمون, لا توجدوا للحاسد مجال لحظة, ولا للقادح مساع لفظة, و أجعلوا حسن الظن ديدنكم, والتسامح غالب رأيكم, والإيثار نهجكم. فإن رأيت من أخيك تقصيراً, فقد قدم لك حزمة الإخلاص, فهب ذنباً لحزمه, واشقع نعمة بنعمة, ليأتي لك الإحسان من جهاته, وتسلك إلى الفضل طرقاته. أيها الصائم, تعلّم من الصوم صفاته, وطبقها في حياتك, فهو مدرسة السلوك, ونافر الشكوك, فالامتناع عن الأكل والشرب عبادة الله أولاً, ومن ثم فهو عبرة للمعتبر, يدعو إلى التواضع ونبذ الكبر, ومشاركة الفقراء أحوالهم, يجعل العقول تثوب إلى رشدها, وتبتعد عن غيها, وتعترف بالممارسة والسلوك أنّ الناس لآدم وآدم من تراب, وأن التفضيل في الرزق لحكمة بالغة عند الله, لا يعني تفريقاً في التعامل, ولا مزيداً من التطاول, فالداء واحد للغني والفقير, والسعادة والحزن تمس الصغير والكبير, القادر وغير القادر, وهذا هو معيار الحياة, بعد الإيمان بالله, والإخلاص في ذلك لوجهه الكريم.
الإسلام رسالة لعبادة الله على الحق, ومدرسة لتعليم المحبة, والسلام, والتآلف, والتقارب, والتراحم, والتعاضد, وشهر رمضان الكريم أحد أركانه, وثالث عمدانه, وروضة من رياض إيمانه, به تتجلى الخيرات, وتدوم المسرات, لو سار الإنسان على نهج المصطفى, وكان ذلك شأنهم وكفى, لكن بعضهم مع كل أسف, لا سيما في زماننا هذا قد نسوا ما أوجب الله عليهم من سلوك حميد, واكتفوا بالعبادة دون المعاملة, وكأنها ليست جزءاً من الطاعة, فطاعة الله تتم باتباع أوامره, واجتناب نواهيه, وما أعظم ذلك فيما يربط العبد بالعبد من حسن الخلق, والتعامل, والتواضع, والإيثار, ومساعدة الغير, والإخلاص في العمل, والبشاشة في الوجه, وحسن الحديث, والتجاوز عن الزلات.
أيها الصائم القائم, لعلك تبتعد عن ربط ما يصيبك, بعين حاسد, وسحر ساحر, وتلبس جني, فقد أصبحت هذه المبالغات مصدراً للأمراض النفسية, والوساوس وهي شر البلية, فكثر الواهمون, وزاد المعالجون, فاستخفوا بعقول الناس, وقلّ عندهم الإحساس, وذهب الدرهم والدينار, فيما لا يجلب سوى الدمار, لعل هذا الشهر الكريم يكون كافياً للتأمل لمن يحيل كل مآسيه إلى هذه الأمور, ويلجأ إلى الباري عز وجل, ويزيد إيمانه به, ويحصن نفسه بذكر الله, والاتكال عليه, وعدم الالتفات إلى ما سواه.
أيها المسلم الصائم, أنظر إلى من حولك من الدول, وما يجري فيها, واحمد الله على نعمة الإسلام أولاً, والأمن والأمان, وتوفر الخيرات, من أكل وشرب وخدمات, فهناك من لا يجد مأوى, أو ماء وطعاماً ليقوى, فلا يكاد يجد سوى ما يسد رمقه, ويستر عورته, ومع هذا فهو غير آمن, إن لم يكن قد فقد من عائلته وأقربائه ومعارفه ما قد فقد, فالحمد لله كثيراً في هذا الشهر الفضيل على نعمة الإسلام, ونعمة الأمن والإيمان, فهما نعمتان عظيمتان تستوجب الشكر لله, والثناء عليه, جعلنا الله من صوّام هذا الشهر وقوّامه.