د. عبدالحق عزوزي
تتمة لما تحدثنا عنه الأسبوعين الماضيين، فأساتذة الفن الاستراتيجي المؤهلين، في عهد الرئيس بوش (الابن)، كانوا هم المحافظون الجدد، ومازالت سياستهم الخارجية في تلك الفترة وتدخلهم العسكري دون «نظارات استراتيجية» دقيقة، تلقي بفاتورتها الثقيلة على البيت الأبيض، والسياسة الخارجية الأمريكية،
وعلى مستقبل الأمن القومي؛ فحصل لحد الساعة ارتباك في العمل الاستراتيجي، لأن أعضاء فريق الدبلوماسية والأمن القومي يعملون في مستويات مختلفة، وعندهم أدوار مختلفة في الدولة، والهياكل التنظيمية الهرمية، والجميع بحاجة إلى احترام دوره وعمله، من تخطيط واستراتيجية وسياسة، ليتم التواصل بشكل فعال، ولتبادل المعلومات فيما بينهم، ومع الشعب الأمريكي في نهاية المطاف.
هذا الخلط هو الذي أدى إلى انحراف بعض الأدوار لبعض المؤسسات الأمريكية، وبالتالي إلى ضعف في الإنتاج والمردودية، وهذا هو الجانب الخفي في بعض التقارير الأمريكية، وهذا ما تحذر منه نظريات الاستراتيجية في مجال العلاقات الدولية، وهذا يحيلنا هنا إلى دراسة دور المستشارين في صياغة الاستراتيجية. والسياسة الأمريكية مليئة بالدروس في هذا الجانب.
إن الأجهزة التنفيذية مصطلح إداري يُعنى به مختلف الوزارات، والإدارات التابعة لها، والمجالس الوطنية، وغيرها من المؤسسات التي تشكل مجتمعة الهيكل الإداري للدولة، وتقوم بأداء مهامها الدستورية تحت إمرة رئيس البلاد، بوصفه رئيس السلطة التنفيذية، ورئيس الدولة، كما هو الشأن في الولايات المتحدة الأمريكية، وفي فرنسا، وغيرهما من الدول. وهذه المنظومة مجتمعة تنطوي على صعوبة كبيرة؛ ففي العلاقات الخارجية مثلاً، وفي شأن الأمن القومي، لابد لممارسي هذه الأمور -وفي بيئة دولية معقدة- من تبني منظور شامل للأشياء، وهنا يكون دور الأشخاص مهماً جداً، وغالباً ما تظهر قيمتهم، أو محدوديتهم، عند الأحداث السياسية الكبرى.
فكثير من المراقبين مثلاً، كانوا يظنون أن وزير الدفاع الأمريكي السابق دونالد رامسفيلد، كان رجلًا محدوداً، بسبب قيادته ورؤيته لدور الدفاع، وعلى رأس هؤلاء: المراقبون العسكريون، والقوات العسكرية، ولكن سرعان ما كشفت الوقائع، خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر 2011، صلابة رامسفيلد، وفظاظته، ونوعية فكره الاستراتيجي. ونتذكر جميعاً نوعية الفكر المحدد للمحافظين الجدد في إدارة بوش الابن الأولى، التي غيّرت تيار النظام الدولي، خاصة في الشرق الأوسط.
إن السمات الأربع للبنية الاستراتيجية الحديثة: التقلب، والتوجس، والتعقيد، والغموض، تدفع الرؤساء في أمريكا إلى تبني آليات متعددة لاتخاذ القرار. ويلعب المستشارون دوراً كبيراً في هذا المجال. فإذا بقينا في مثال الولايات المتحدة الأميركية، وفي سياستها الخارجية، نتذكر البون الشاسع في التفكير والتنظيم بين كولن باول وزير الخارجية في عهد بوش الابن، ووزير الدفاع رامسفيلد. ونعلم هنا أن وزارة الخارجية والدفاع الأمريكيتين مرتبطتان بالقوة العسكرية، فالتفوق والقوة العسكرية، يعطيان الهبَّة اللازمة للدبلوماسية الأمريكية، وهذه الأخيرة تحاور القوة العسكرية، لتخرج بنجاح سياسي؛ فكولن باول كان يرفض التدخل العسكري دون شرعية أممية، إلا أن الكلمة الأخيرة كانت لرامسفيلد، ولحد الساعة ما زالت تثار في كواليس الأجهزة الدبلوماسية والعسكرية الأمريكية، مسألة تحديد المسؤول المخطئ في الفشل الحالي في إرساء الاستقرار في عدة مناطق كالعراق.
إن كل متتبع للسياسة الخارجية والداخلية الأمريكية، يخرج بنتيجة ذات مغزى كبير، هي أنه عندما يتكئ الرئيس الأمريكي على زمرة من المستشارين الموثوق بهم فقط، فإن ذلك يكون مطية لنشوء ظاهرة التفكير الجماعي الأحادي، والمشكلة هنا أن ثقة الرئيس اللامتناهية بهؤلاء المستشارين، غالباً ما تكون نتيجة للتشابه والتناغم في العقليات بين أفراد المجموعة، وأعني بذلك الأيديولوجيا السياسية، والنظرة إلى النظام الداخلي وإلى العالم، والنتيجة النهائية هي أن الرئيس غالباً ما يسمع ما يعرفه مسبقاً، ويعيه جيداً، ويؤمن به أشد الإيمان، فتحصر بذلك صناعة القرار مركزياً في قمة هرم الدولة. فتبقى المعرفة الحقيقية عند المستويات الدنيا من النظام الهيكلي للدولة، أو عند أناس لهم باع في الفهم، والتفكير، والتخطيط، والتنظير، هم أولى بالاستشارة من المستشارين الحاليين. ويُقال أيضاً إن وزير الدفاع رامسفيلد، ونائب الرئيس ديك تشيني -وقد اعتُبرا من الدائرة الضيقة الاستشارية لبوش الابن- كانا قد منعا وصول معلومات مهمة عن قضايا حقيقية وأكيدة إلى أذني بوش، لأنهما منعا نظام التعامل المثلي والضروري بين المؤسسات والأجهزة، كما هو مخطط أصلاً.
إن المشاكل العديدة التي تطْرق اليوم بعضَ الدول العربية، كمصر وتونس، مرد بعضها إلى محدودية محيطي الرؤساء الجدد. والبيئة السياسة الداخلية معقدة جداً، وأكثر تعقيداً من الفترات التي خلت. وهي في حاجة إلى منظرين ومستشارين أكفاء، أو لنقل إلى استراتيجيين أكفاء. وصياغة الاستراتيجية فن وعلم معاً، إذ تحتاج إلى دراية، وذكاء، وعلم حقيقي، ثم إلى بصيرة، «إذ لا شيء أكثر ضرراً من العمل من دون بصيرة»، كما يقول توماس كارليل. أما أن يأتي رئيس جمهورية، أو رئيس حكومة بمستشارين من فصيله السياسي والأيديولوجي فقط، فلن يسمع إلا ما يريد أن يسمعه، بل إنه لا يمكنه أخذ إجراءات مخالفة لنظرهم، وإلا اتهموه بالخروج عن جادة الصواب.
في فرنسا، استعان الرئيس السابق ساركوزي بوزير الخارجية برنار كوشنير، وهو ليس من حزبه، والأمثلة كثيرة في الدول الديمقراطية العتيقة. والكفاءة والنبوغ الذهني، والدراسة والعلم الحقيقي، هي الشروط الحقيقية لصياغة الاستراتيجية، وتنفيذها على أرض الواقع، وإلا فإن الفكر والسياسة والاستراتيجية، ستُبنى على أسس خاطئة، وستبوء المؤسسات بالفشل الذريع، وستهوى الدولة إلى الحضيض.
وفي هذا الجانب يقول المنظِّر الاستراتيجي كارل فون كلاوزفيتز (1780- 1831) «إن تأثيرات دور العبقري، لا تظهر كثيراً في المراحل الأولية، أو الأنماط الجديدة للعمل، كما تظهر في النجاح النهائي للعمل بأكمله. إن ما ينبغي علينا تقديره، هو التنفيذ الدقيق للافتراضات غير المرئية وغير المعلنة، والانسجام السلس للنشاط في مجمله، وهذا لا يصبح جلياً إلا عند تحقيق النجاح النهائي». أسرد هذه المقولة، لا لأقول إن الرئيس الأمريكي باراك أوباما عبقري، ولكن لأبيِّن أنه متميز في فهمه للسياسة، وللاستراتيجية، والتخطيط، وتنفيذها كثلاثة محددات متداخلة في السياسة الخارجية، والأمن القومي الأمريكي. والعلاقة بين تلك المحددات الثلاثة مترابطة، وتعتمد على درجة تعقيدات البيئة الاستراتيجية، والمستوى الهيكلي للخطر، وطبيعة التخوف، ومؤشرات التوقيت، وبُعد نظر القيادة التي تتربع على أعلى هرم في السلطة، ومختلف الخيارات المتاحة أمامها. والاستراتيجية والتخطيط يجب ألا تتأثر بالأهواء السياسية الضيقة، وإلا فإن مآلها الفشل؛ إذ يجب أن تخضع لنماذج فكرية منضبطة، كما أن الاستراتيجية تعامل السياسة على أنها أحد العوامل.
لقد فهم أوباما أن الاستراتيجية الدولية أصبحت معقدة ومكلفة، ويتزايد فيها عدم الاستقرار لارتفاع مستوى التفاعل، بسبب تعرضها لعملية إعادة توازن جذرية جديدة. وهذه التغيرات تعكس اضطرابات في العوامل الأساسية للاستمرارية في البيئة الاستراتيجية. ومن هنا تظهر ضرورة وجود استراتيجيّين عباقرة على حد تعبير كلاوزفيتز؛ وهذا يتطلب منهم الاكتناز العقلاني للمعلومات والمعرفة، والتفاني في عملية إنتاجهما، وتوزيعهما وتخزينهما، وانتقادهما واستخدامهما بطريقة صائبة، بوصفهما النشاط الأساسي لمجتمع الأمن القومي والمصالح العليا، على غرار حصاد الموسم الزراعي، أو إنتاج المواد المصنعة.
أوباما في حاجة إلى أدوار خبراء استراتيجيين جدد، لإعادة إصلاح وتشكيل بيئة استراتيجية جديدة خاصة، مع ازدياد الصعوبات وعدم الاستقرار في النظام العالمي، خدمة للمصالح الوطنية، فهو يريد من الـ»سي آي أيه» تغيير لباسها القتالي، وعودتها إلى دورها الاستخباراتي، وجمع المعلومات، ولو احتفظت بالأسطول الضخم للطائرات المسلحة التي تعمل من دون طيار. كما أن أوباما، يريد خفض ميزانية الدفاع التي تأتي على 20 في المائة من ميزانية الدولة، أي من أموال دافعي الضرائب، في وقت يستمر فيه صعود الصين كقوة عسكرية، وتتصاعد وتيرة الإرهاب التابع لتنظيم «القاعدة» في إفريقيا جنوب الصحراء وداعش في الشرق الأوسط.