د. محمد بن عويض الفايدي
يُشكل العلم والتقنية الخلفية المشتركة وراء التحولات الاقتصادية متناهية السرعة التي ولدت فرص اقتصادية تنبثق عنها فرص أخرى وفرص بديلة، وتتنافس الدول في الاستحواذ على هذه المقومات بتكامل فعال بين القطاع العام والقطاع الخاص.
يبدو جلياً أن الدول الكبرى والأكثر تقدماً تنظر للعلم والتقنية كأدوات استراتيجية جوهرية تسهم في البناء وتحقق النماء والرفاه الاقتصادي والاجتماعي وفق منهجيات التخطيط السلوكي الذي يستجيب للتحديات والتحولات المفاجئة ويتشارك القطاعين العام والخاص في تنفيذ الأهداف والبرامج التي تتبناه الميزانية العامة وتُشكل خططها الخطة الخمسية للدولة.
تُدرك الدول النامية كذلك أهمية العلم والتقنية كوسائل أساسية لرفع كفاءة الاقتصاد وتنويع مصادره. وتستشعر هذه الدول أبعاد العلاقة المتبادلة بين العلم والتقنية من جهة والتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية من جهة أخرى، ولكن العملية التشاركية بين القطاعين العام والخاص تسير بينهما ببطء، ولا تواكب التغير الاقتصادي والاجتماعي السريع الذي يفرضه التحضر المجتمعي.
يشهد العالم تحولاً مذهلاً في المجال الاقتصادي يتمثل في التحول من الاقتصاد الصناعي إلى الاقتصاد القائم على المعرفة، وصناعة المعرفة، والاستثمار في المعرفة.
الاستجابة لاقتصاد المعرفة يعتمد بشكل مباشر على إنتاج المعارف والمعلومات واستثمارها وتداولها والاستفادة منها. تسعى المملكة نحو هذا الاتجاه ولكن لا زالت بنى البحث العلمي والتطوير التقني والاقتصاد والاستثمار لم ترتق إلى التكاملية والتوجهات المشتركة، ويبدو ان الفجوة واسعة بين القطاع العام والقطاع الخاص في البحث العلمي والاستثمار المشترك، ولم تُتخذ خطوات عملية لإزالتها.
يمتلك القطاع الخاص المعرفة والخبرة في إدارة المشروعات التي يعتبر عنصر الوقت فيها أداة إنجاز تستند إلى تقليل المدة الزمنية اللازمة لتنفيذها، والذي بدوره سيحسن من موقف الادارة العامة التي تعاني من بطء التنفيذ, كما أن توفر رأس المال المباشر للقطاع الخاص يساعد في تخفيف القيود المالية التي يعاني منها القطاع العام، ويعمل كذلك على استثمار القيمة المضافة التي توفرها له المرونة المالية ليعمل في إطار تحسين القدرة الإدارية والمالية للقطاع العام.
تعقيدات المشهد الاقتصادي والسياسي تُشير إلى إنّه مِن المهم جداً على رجال الأعمال وصناع القرار أن يدركوا حجم ومغزى عناصر القوة الأساسية والناعمة التي تمتلكها المملكة، وأن يستشعروا عمق التحولات الآنية أو تلك التي ستنشأ مستقبلاً وقد تُستشرف أو لا تُستشف لتراجدايا المواقف واتساع النزعات المسلحة والصرعات العسكرية الإقليمية. والرؤية الاستراتيجية تقتضي بأنه بات عليهم حسم الشركة بالخروج من دائرة الهيمنة إلى رحابة المنافسة والتكاملية في تنفيذ البرامج الممولة في الميزانية العامة للدولة في إطار التنافسية المحققة للجودة الكلية للمشروعات الوطنية.
إن توفر ثقافة مجتمعية داعمة للشراكة، ودمج الاهتمامات الفردية بالاهتمامات العامة للمجتمع في تصور واقعي مشترك للشراكة مبني على نقاط القوة والضعف المتوفرة لدى أطراف الشراكة، وتوزيع المخاطر الناجمة عن إقامة المشروعات بين أكثر من طرف لتحقيق وضع تنافسي أفضل كل ذلك يُتيح آفاق أكثر للشركة والتكامل بين القطاعين العام والخاص.
ستواصل المملكة جذب الاهتمام على مدى العقدين القادمين «بإذن الله» ليس بسبب مخزون الطاقة فحسب ولكن بسبب الشروع الجاد في التنوع الاقتصادي ومن ذلك المدن الاقتصادية.
تكشف الأحداث القائمة أن النزاع في اليمن والصراع في المنطقة العربية ومنطقة الشرق الأوسط، والنزاع النووي الإيراني مِن شأنها أن تحد من استمرارية التقدم الاقتصادي المتنامي في المملكة.
تعثر تنفيذ مشروعات حكومية في مجال التعليم، والصحة، والنقل، وغيرها من قبل مقاولين لأسباب مختلفة تسبب في تراجع مثل هذه الخدمات، وإعاقة برامج وخطط التنمية، وتوقف بعض المشروعات وإعادة طرحها في ميزانية الأعوام القادمة.
يبدو أن الأسباب الجوهرية وراء تعثر مثل تلك المشروعات ناجمة بداية من القطاع العام نتيجة سوء اختيار المقاولين، وممارسة ضغوط لتخفيض الأسعار، وعدم وجود آلية في نظام المشتريات الحكومية يسمح بتعويض المقاولين عن ارتفاع أسعار المواد الحيوية المرتبطة بالتنفيذ، والتضخم الاقتصادي الذي أدى إلى زيادة التكاليف التشغيلية، وغياب الشراكة الحقيقة بين القطاعين العام والخاص لتحمل المخاطر والإسهام في الحد من آثارها.
يُعد التكامل والتفاعل والتعاون بين القطاعين العام والخاص في الإمكانيات البشرية والمالية والإدارية والتنظيمية والتقنية والمعرفية والبحث والتطوير والملكية الفكرية على أساس من المشاركة الفعالة في الالتزام بالأهداف، وحرية الاختيار، والمسؤولية المشتركة، والرؤية التطويرية، والمساءلة القانونية، من أجل تحقيق أهداف التنمية المستدامة بكفاءة وفاعلية ضرورة ينبغي تبنيها.
تعزيز القدرة التنافسية وجذب مصادر التمويل والتوسع في المشروعات لإيجاد فرص عمل جديدة وجذب الاستثمارات ودعم الاستقرار الاقتصادي في إطار الشراكة المرتقبة مازال في مراحل مبكرة تستوجب التسريع لوضع مبادئ وقواعد ونظم موحدة تحكم وتنظم أشكال الشراكات المتنوعة بين القطاعين العام والخاص بحيث تشمل كافة مجالات التنمية الاقتصادية والإدارية والاجتماعية.
ضمان نجاح الشراكة لا يقتصر على التشريعات والأنظمة فحسب إنما يشمل مفهوم الحوكمة فكلاهما له أبعاد متعددة ذات جوانب إدارية وقانونية واقتصادية واجتماعية تلتقي في نقاط مشتركة مستندة إلى مبادئ الشفافية والإفصاح والمساءلة وتحديد المسؤوليات والحقوق المتساوية للمستفيدين لرفع كفاءة استخدام الموارد المتاحة، وتحقيق الجودة الكلية التي تضمن التنافسية والريادة.
يتمحور دور القطاع العام في رسم السياسات وسن التشريعات وتخصيص موارد الميزانية العامة. أما دور القطاع الخاص فيبرز في تنفيذ المشروعات، والمشاركة في توجيهها انطلاقًا من ضعف كفاءة تنفيذ خطط التنمية إذا ما اقتصرت على أي من القطاع العام وأجهزته التنفيذية أو القطاع الخاص بشركاته ومؤسساته بشكل منفرد لأي منهما.
وضع سياسات لزيادة قدرة العاملين السعوديين على المنافسة في القطاع الخاص بتطوير القطاع العام استراتيجيات سوق عمل وطني قادر على زيادة عدد السعوديين العاملين بالقطاع الخاص زيادة فعلية وليس زيادة رقمية تفتقر إلى التدريب والممارسة الفعلية لمهام الوظيفة. في حين أن المأمول هو القيام بتعزيز نظام التعليم والتأهيل والتدريب لرفع مستوى الثقة في القوى البشرية العاملة على المستوى الوطني وتكثيف فرص العمل بالقطاع الخاص للسعوديين، الذي لا يزال القطاع العام هو المصدر الأساس لفرص العمل الجديدة المتاحة لهم، والسير قدما في تحسين جودة الإحصاءات الاقتصادية، وتكثيف سياسات السلامة الاحترازية الكلية بتعزيز نظم الإنذار المبكر، وإصدار تقارير الاستقرار المالي بشكل دوري.
رفع كفاءة الإنفاق العام من خلال استحداث معايير وبناء مؤشرات قياس نوعية لقياس أداء الوزارات والمصالح التنفيذية في خطة التنمية الوطنية العاشرة، والتي تعكس التحديات المرحلية أهمية إعادة النظر في التحول إلى التخطيط السلوكي قصير الأجل الذي يستجيب بشكل أسرع للتغيرات والتطورات السريعة للأحداث أفضل من الخطط الخمسية، ويشارك فيها القطاع الخاص بفعالية وحيادية للوقوف على حقيقة الإنجازات والكشف عن المعوقات والتحديات وإجراء عمليات التقييم والتقويم بموضوعية، ورفع درجة الشفافية التي تكفل تعدد القنوات الرقابية على الأداء بما فيها الجمهور.
تحقيق أبعاد التنمية الوطنية الشاملة وضمان نظام أمني ودفاعي واق يحقق معطيات التنمية المستدامة ويتحقق بها في ظل ما تنشده القيادة السعودية، بتبني مشروعات للشراكة بين القطاعين العام والخاص بالاستثمار في الإنسان السعودي الذي هو محور التنمية، وتوسيع دائرة الاقتصاد المعرفي، وتبني السياسة السكانية ضمن منظومة التنمية الوطنية المستدامة، ومواجهة الحواجز البيئية أمام التجارة السعودية، وحماية البيئة والمحافظة على الموارد الطبيعية وتنميتها وتبني التخطيط البيئي والاقتصاد الأخضر من خلال التخطيط السلوكي الوطني الشامل للتنمية. والوقاية من الكوارث الطبيعية والصناعية بتحييد مسبباتها، وتدعيم اهداف التنمية الألفية ما بعد عام 2015م بتعزيز شبكات الأمان الاجتماعي والأمان الإنساني والتلاحم الاجتماعي لضمان استقرار المجتمعات، والوقاية من مخاطر الإرهاب العلنية والمستترة التي تهدد المجتمعات البشرية.
أن الميزة الجيوسياسية للمملكة بكونها تربط بين قارتي آسيا وأفريقيا وبحدود بحرية طويلة تتخللها نقاط استراتيجية متعددة يمكن استثمارها بفرص واعده تراكمية الأهداف. قد تأتي الشراكة بين القطاعين العام والخاص محققة لهذا الهدف إيمانًا بأهمية التنمية المتوازنة بين المناطق التي لا تقل أهمية عن الانتاجية التنافسية المتاحة في المناطق الواعدة ذات المزايا النسبية الاقتصادية والجغرافية والسكانية.
إن التركيز على برامج التصنيع الضخمة كالبتروكيماويات يمكن أن يدفع بالاقتصاديات ويحمل على توظيف الموارد، وتفعيل قطاعات اقتصادية أخرى وإدخالها في دائرة الصناعة، كصناعة الزراعة، وصناعة السياحة، وصناعة صيد الأسماك، والاستثمار السياحي من خلال المواقع الدينية والتاريخية وغيرها مما يسهم في تنمية شاملة ومتكاملة، وزيادة فرص المشروعات الصغيرة والمتوسطة في الحصول على التمويل، وتحسين بيئة الأعمال من أجل بروز قطاع يقود القطاعات الاخرى ويدفع بها إلى الريادة والتنافسية.
إن الأنظمة والقوانين الاقتصادية والاستثمارية تقادمت ولم تعد ملائمة للتطورات والتغيرات المصاحبة لمناخ الاقتصاد الداخلي والخارجي، إذ مضى عليها نحو أربعة عقود من الزمن. وفي ظل التنظيم الحكومي الجديد المتمثل في مجلس الشئون السياسية والأمنية ومجلس الشئون الاقتصادية والتنمية فمن الأهمية بمكان تطوير وتحديث كافة الأنظمة والقوانين بما يتوافق مع تحضر وتطور المجتمع ومتطلبات المنافسة الاقتصادية، وفي مقدمتها قوانين التجارة والاقتصاد والاستثمار، وتشريعات الشراكة والتكامل والتعاون بين القطاعين العام والخاص في إطار تطوير الأنظمة والقوانين وترسيخ مبدأ الحوكمة الرشيدة بالمسألة والشفافية ومكافحة الفساد وحماية النزاهة، وتوضيح مصفوفة تقييم المخاطر والأحداث التي قد تؤثر تأثيرا ماديا ملموسا على المسار الأساس لعملية الشراكة والتكامل.
تتعدد مجالات الشراكة الأكثر جاهزية بين القطاع العام والقطاع الخاص ومن طلائعها مشروعات الإسكان والإسهام في حل معضلة السكن، ومشروعات زيادة الطاقة الاستيعابية للمشاعر المقدسة في مكة المكرمة خاصة إسكان منى، وفرص التطوير الضخمة في المدينة المنورة. إضافة إلى مشروعات النقل والصحة والاستثمار الزراعي لضمان الأمن الغذائي الداخلي، وفي مجال الثروة السمكية والحيوانية والحرف المختلفة لتوفر المقومات الحيوية والموروث التاريخي لقيادة هذه الأنشطة بمهارة ومهنية.
يبدو أن الوقت أصبح أكثر ملائمة لرفع مستوى الشراكة بين القطاع الحكومي والقطاع الخاص في تنفيذ برامج التنمية الوطنية الشاملة، وتدبير موارد الميزانية وانفاقها، ليتحمل الدور الأكبر في ذلك كيان مؤسسي جديد يتشكل في إطار عملية تطوير شاملة يمكن أن تتبنى تحويل وزارة الاقتصاد والتخطيط إلى وزارة للتنمية والبيئة تضطلع بدور تنسق الجهود بين القطاعين العام والخاص لتنفيذ بنود الميزانية وبرامج التنمية برؤية عصرية تستوعب كل معطيات التحضر المجتمعي وتحقق تطلعاته.
الشراكة بين القطاعين العام والخاص تسير في نسق التوجه التنموي المعاصر الذي يتبنى التحول من برامج التنمية العادية إلى اقتصاديات الكفاءة، التي تستند إلى تطبيق مفهوم الجودة في كافة مخرجاتها من اجل خلق بيئة تنموية أكثر ديناميكية وقدرة على تخطي الهزات الاقتصادية التي تعيق تنفيذ برامج التنمية العملاقة وتحول دون تعثر مشروعاتها التنموية، والاستفادة من الفرص الكثيرة الضائعة، وكمثال واحد على ذلك التأمين الصحي الذي يُدفع للمقيمين الأجانب في حين أنهم يتلقون العلاج في المستشفيات الحكومية خاصة في معظم المحافظات والمراكز التي لا يتوفر بها مراكز طبية خاصة.
التحولات السياسية والاقتصادية والأمنية المتقلبة، تجعل من المعطيات الاقتصادية والجيوسياسية متغيراً رئيساً في التنمية المستدامة التي عليها التسريع باستثماره - لاسيما من القطاع الخاص - الذي عليه أن يتحمل دور اللاعب الشاغل لنسبة أعلى في برامج التنمية المستدامة ليحل بالتدريج في شغل مساحة أوسع مما مضى أمام القطاع الحكومي.