د. عبدالحق عزوزي
في كتاب له «الرهان الثقافي وهم القطيعة»، للأنثربولوجي المغربي عبد الله حمودي، يعثر المرء على عدة نصوص ودراسات متفرقة تدخل في إطار البناء الفكري الذي أسس له الباحث منذ السبعينيات عندما قام بنقد لإرنستكلينر انطلاقا من مفهوم الفاعلية الجماعية والتاريخية قبل أن يطور مقاربته في كتابه «الضحية وأقنعتها» (1988) وكتاب «الشيخ والمريد» (1997) ومقالة في النقد والتأويل (2010).
قصد عبد الله حمودي كما جاء في تقديم محمد زرنين للكتاب يكمن في ثلاث غايات كبيرة:
أولها: الانطلاق من الأنثربولوجيا كميدان معرفي أساسي لدراسة المجتمع ميدانيا انطلاقا من فرضية الرهان الثقافي بعد تبيين محدودية المقاربات المتنوعة كالوظيفة والبنيوية والماركسية الموضوعية أو التاريخانية والتنموية ودعوى النقد المزدوج.
ثانيها: دراسة الدين كدين بمختلف تجلياته ومستوياته باعتباره ممارسة اجتماعية-ثقافية-تاريخية.
ثالثها: الحرص على مراعاة كيفية اشتغال المجتمع على ذاته بمعنى مختلف صيغ الخطط الثقافية التي تظهر خلال أنماط اشتغال آليات الأنظمة السياسية.
حاول الأستاذ عبد الله حمودي في بداية الكتاب، صراحة أو ضمنا، دحض بعض النظريات والاتجاهات الفكرية والعلمية التي تنتقد المشروعية المعرفية للأنثربولوجيا ونجاعتها في تحليل المجتمعات العربية والتفكير في مصيرها، ومنها نقده موقف المرحوم محمد عابد الجابري الذي لم يستوعب حسب نظر حمودي إشكالية المعارف في العلوم الإنسانية بالقدر الذي يساعده على تكوين نظرة جديدة عن الأنثربولوجيا، بل فضل الحديث عنها «كمتاهات»، واكتفى بمفهوم محدود للتراث لخصه في الثقافة العالمية؛ ومنها أيضا موقف عبد الله العروي في دفاعه عن التاريخ والتاريخانية لوضعية الأنثروبولوجيا انطلاقا من نقد كتابات فون كرونبارم.
في كتاب كنت قد ألفته منذ ما يزيد عن ثمان سنوات، «السلطوية وآليات الانتقال الديمقراطي في دول المغرب العربي»، (باللغة الفرنسية)، انتقدت في فصل بأكمله منهجية الأنثربولوجيين في وصف وتحليل الظاهرة السياسية في الدول العربية وبالأخص في المغرب الذي أفرد له حمودي كتابا كاملا «الشيخ والمريد» وزاد عليه في هذا الكتاب الجديد بعض الأمثلة كحكومة المعارضة الاشتراكية المغربية التي وصلت إلى الحكم (1998) وغيرها؛ لم أخرج عن منهج الجابري عندما وصفت منهجية بعض الأنثربولوجيين في توصيف السلطوية «بمتاهات الفكر» لأنهم يؤمنون بدرجة عالية من الحتمية التاريخية التي لا مرد لها خاصة وأن نمط فكر العرب عندهم يتميز بطابع خاص معتقل في سجن مؤبد محكم الإقفال لا يمكن أن يستفيد من عفو خاص أو عام، ويعطون للعوامل الذاتية (subjectives) كالثقافات والسلوكيات طابعا لا يخلو من المبالغة.
أظهرت في هذا الكتاب أن:
1) تصوير الذهنيات والثقافة والعادات العربية بالسلطوية والجمود والبطركية مغالطات خطيرة تصور الإنسان العربي مكبل اليدين يخضع لتقاليد بالية ولمؤسسات متآكلة؛
2) وهي ليست العامل المستقل (IndependentVariable) في تفسير الأوضاع السياسية
3) كما أن التطور في السلوك العربي أفراداً ومؤسسات في العقود الأخيرة حقيقي؛
4) وأنه لا يخضع لقواعد الجمود والاستقرار؛
5) وأن العامل السياسي البنيوي هو المحدد وليس العامل الثقافي أو الحضاري.
ما كنت لأكتب هذا الكلام مرة أخرى لولا إصرار عبد الله حمودي أربع عشرة سنة بعد إصدار كتابه عن الشيخ والمريد على نفس النظريات، إذ يقول الكاتب مثلا: «التحول لا يتقدم بخطى ثابتة في المغرب كما في باقي البلدان، ولسنا مؤمّنين ضد كل محاولات الرجوع إلى الوراء وضد كل الانزلاقات... فالأجهزة... بقيت هي هي؛ لكن بمجرد ما يحدث طارئ، كما في تفجيرات 16 ماي 2004 بالدار البيضاء تظهر من جديد الاعتقالات والتعسفات ويظهر الخلط، وانتهاك حقوق الإنسان، مما يؤكد وجود مناطق ظل كثيرة...» وأنا أقول إن التحول حقيقي ولا رجعة فيه، إذ حدث للأسف إرهاب مماثل في مراكش، وكان البعض يظن أن هاته العملية التفجيرية ستوقف عجلة الإصلاح الديمقراطي بالمغرب، فلم تقع اعتقالات أو تعسفات ولم يظهر أي خلط، بل تم القبض فقط على مدبر العملية وهذا حق مشروع، ولم تنتهك حقوق الإنسان، مما يؤكد وجود تحول حقيقي في المسالك والمؤسسات والأفراد، ولم تعد توجد مناطق الظل؛ كما أن النمط الحضاري المسمى علاقة الشيخ بالمريد (في الزوايا المغربية المبنية على الخضوع المطلق) تفيد بأن تلك العلاقة تتجسد في علاقة الملك برعاياه؛ وكيف يمكن أن نفسر بأن كلمة «القداسة عند الملك» التي كانت في دستور 1996 والدساتير التي سبقتها قد أزيلت في الدستور الجديد لسنة 2011؛ قد يقول قائل إن الدستور يحافظ على أن الملك هو رئيس الدولة، وممثلها الأسمى، ورمز وحدة الأمة، وضامن دوام الدولة واستمرارها، والحكم الأسمى بين مؤسساتها، يسهر على احترام الدستور، وحسن سير المؤسسات الدستورية، وعلى صيانة الاختيار الديمقراطي، وحقوق وحريات المواطنين والمواطنات والجماعات، وعلى احترام التعهدات الدولية للمملكة، ولكن نجد ذلك في كل دساتير الديمقراطيات الملكية في العالم؛ فملك إسبانيا هو الممثل الأسمى لإسبانيا وهو الحكم والوسيط في الشؤون السياسية الداخلية.
هشاشة نظرة حمودي لفهمه للأنظمة هو تجاهل العوامل السياسية البنيوية في تحليله للأوضاع السياسية في المغرب وكل البلدان العربية مما تجعل العالم الأنثربولوجي يحدث مسافة بينه وبين الواقع المتغير، الذي يراه على أنه ساكن وثابت لا يتغير، ورغم المسافة الموضوعية التي يريد أن يأخذها فإن ذلك لا يفيده في شيء لأنه ينطلق من مفهوم الذهنيات والثقافات على أنها ثابتة عبر الزمن ومن ثم فإن الجمود الحضاري عنده سمة العرب الدائمة.
ولنأخذ مثال دولة الهند وطبيعة الديمقراطية ذات اللون الغربي ولكن ذات العمق الهندي في البلد وهي تعارض مقولات حمودي وغيره، بمعنى أن أسلوب السياسة في البلد الممارس سليم من ناحية العلوم السياسية دون أن تكون مسبباتها وبعض ركائزها شبيهة بما يقصه علينا منذ عقود بل ومنذ قرون المنظرون الغربيون عن الشروط الثقافية والمجتمعية والاقتصادية التي يجب أن ترسخ في البلد وتصاحب الديمقراطية لكي يكون جسمها صحيحا معافى...
دولة الهند لما بعد الاستقلال أنتجت عقلا سياسيا هنديا واستطاع مواطنوها أن يشتبكوا اشتباكا نظريا ناجحا مع معضلات الدولة والمجتمع في البلاد، فقدموا حولها معرفة علمية صحيحة وساهموا بها في ترشيد الممارسة السياسية...
فالمجتمع والجسم السياسي الهنديان لا يظهران على أنهما ثمرة مبدأي الفردانية والمساواة كما ينادي بذلك أكثر المنظرين الغربيين للديمقراطية، فهما على العكس من ذلك نتيجة متداخلة ومتشابكة من العادات والتقاليد وإرث الاستعمار البريطاني المتنور- خلافا لنظيره الفرنسي في مجال الإرث الديمقراطي الذي تركه للبلدان المستعمرة- وثمرة ذكاء النخبة المحلية....فما كان لطبيعة النظام السياسي الهندي أن ينجح لو لم تفهم النخب الهندية أن نظامها السياسي هو العلاج الوحيد لدولة شاسعة ذات الساكنة المركبة تركيبا إثنيا ولغويا ودينيا متعددا (814 مليون نسمة يشاركون في الانتخابات وهو عدد يزيد على عدد سكان أوروبا مجتمعة)، وهو ما لم تفهمه دول كباكستان مثلا في كثير من مراحل تكوينها السياسي...
فالأمر أكبر من التبشير بأفكار فلاسفة الأنوار الأولين وزرع مبادئ غربية ونشرها وإنما إنتاج عقل سياسي محلي حديث يحافظ على الخصوصيات الوطنية ويجعل منها ماء عذبا يسقي النظام السياسي الحديث بمبدأ التعاقد لمصلحة المواطنين والبلد...