د. محمد بن عويض الفايدي
تمتلك الولايات المتحدة الأمريكية نظاماً ضخماً للبحث والتطوير ولكنه متفرق ومعقد، ويُعد أكثر الأنظمة البحثية إنفاقاً حيث تقدر نفقات الأبحاث والتطوير (RالجزيرةD) في الولايات المتحدة الأمريكية بنحو (2.6%) من الناتج المحلي الإجمالي. وترفع نفقات البحث والتطوير في الولايات المتحدة الأمريكية إلى نحو (42%) من إجمالي نفقات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD). وسيتم استعراض هذه التجربة في محورين رئيسيين على النحو التالي:
المحور الأول:
التنظيم المؤسسي
يتسم التنظيم المؤسسي لنشاط البحث والتطوير في الولايات المتحدة الأمريكية بأنه ليست له خطة وطنية موحدة، كما أنها لم تصرح بشكل علني عن الأهداف العامة الوطنية للأبحاث إلا أن التصريحات الدورية على سبيل المثال، من قبل الرئيس ومجلس الشيوخ تقدم نوع الأهداف الوطنية والتوجيه لهذا النظام الضخم والمعقد والمتعدد الجهات، وقد تكون الأهداف العامة ظاهرة أو ضمنية في اعتمادات الميزانية الكبيرة. بالإضافة إلى التصريحات حول الأهداف العامة والأولويات من قبل الحكومة والمصادر شبه الحكومية فإن مختلف الأجهزة العلمية الوطنية المستقلة والاتحادات المهنية لهم تصريحاتهم بأولوياتهم البحثية وتسهم في تشكيل جدول الأعمال الوطني.
تعتمد صياغة إستراتيجية أنشطة البحث والتطوير في الولايات المتحدة الأمريكية على عملية معقدة في خطواتها إذ إنها تتطلب أيضاً تقديم عدة سبل لمجموعة كبيرة من المهتمين بأنشطة البحث والتطوير للإسهام في ما يعرف غالبا بالحوار الشفاف حول تشكيل الأهداف العامة للبحث والتطوير وإعداد أولوياته، ولكل إدارة أولوياتها الخاصة بالأبحاث طبقاً لأجندة أعمال سياسة العلوم والتقنية للرئيس الأمريكي، وتحقيق هذه الأولويات يأتي عبر عملية معقدة من التفاوض عليها مع لجنة مجلس الشيوخ الأمريكي والتي يمكن أن تتمخض عن تغيرات أو تعديلات في عدد من النقاط المطروحة في أنشطة البحث والتطوير.
تسعى سياسة العلوم والتقنية من أجل تعزيز نشاطات جهات معينة باختيار أربعة مجالات رئيسة للأولويات البحثية منها مكافحة الإرهاب، والبحث والتطوير في مجال الشبكات وتقنية المعلومات، ومبادرة وطنية متعلقة بالتقنية الدقيقة، وتغير المناخ. ويتضمن التنظيم المؤسسي لأنشطة البحث والتطوير في الولايات المتحدة الأمريكية عددا من المكاتب والمجالس والجهات من أبرزها الآتي:
1 - مكتب البيت الأبيض لسياسة العلوم والتقنية (أو إس تي بي)
يقوم مكتب البيت الأبيض لسياسة العلوم والتقنية (أو إس تي بي)، في دورة التمثيل في الأمانة العامة للمجلس الوطني للعلوم والتقنية بمسئوليات هامة من أجل تنسيق سياسة وكالات الحكومة الفيدرالية. ولدى الفرع التنفيذي للحكومة أربعة مكاتب أو مجالس تقدم الاستشارة للرئيس الأمريكي في مجال البحث والتطوير، ويقوم مكتب سياسة العلوم والتقنية بالمساعدة في تنسيق نشاطات العلوم الفيدرالية لتفي بالأهداف العامة الرئاسية، كما يقوم بالاشتراك مع مكتب الإدارة والموازنة (أو إم بي)، بإصدار مذكرة موازنة سنوية حول أولويات البحث والتطوير، ويعتبر المكتب بمثابة الأمانة العامة للمجلس الوطني للعلوم والتقنية. ومديره هو المساعد للرئيس في مجال العلوم والتقنية، أي أنه المستشار الوطني الرئيسي للعلوم والتقنية.
2 - المجلس الوطني للعلوم والتقنية (إن إس تي سي)
يُعد المجلس الوطني للعلوم والتقنية (إن إس تي سي) المجلس الأعلى على المستوى الوزاري حيث يترأسه رئيس الدولة، ويتألف من الأمانات العامة لمجلس الوزارات ذات العلاقة وممثلي الجهات البحثية الكبرى، ويعتبر بمثابة الأداة الرئيسة للرئيس الأمريكي لتنسيق سياسة العلوم والتقنية على المستوى الاتحادي، وللمجلس خمس لجان ذات أهداف محددة تقوم بتنسيق سياسة وميزانيات نشاطات جهات متعددة للعلوم والتقنية.
3 - مجلس مستشاري الرئيس حول العلوم والتقنية (بي سي أيه إس تي)
يساعد مجلس مستشاري الرئيس حول العلوم والتقنية (بي سي أيه إس تي) المجلس الوطني للعلوم والتقنية في ضمان مشاركة القطاع الخاص في أنشطة البحث والتطوير، ويتألف من (18) عضواً من القطاع الخاص والتعليم العالي.
4 - مكتب الإدارة والموازنة (أو إم بي)
يختص مكتب الإدارة والموازنة (أو إم بي) بتنسيق عملية الموازنة للرئيس عموماً، وهذه تشتمل على الميزانية الاتحادية للبحث والتطوير المقترحة، وذلك بمقدار ما تتألف هذه من مجموعة مقترحات إدارية ومقترحات أبحاث الجهة إذ لا توجد ميزانية منفصلة للبحث والتطوير حيث تقدم عبر مكتب الإدارة والموازنة. وعلى مستوى الحكومة الاتحادية، فإنه يوجد حوالي (30) جهة لها ميزانيات للأبحاث، وتلك الجهات التي لها ميزانيات أبحاث أكثر أهمية.
5 - المعاهد الوطنية للصحة (إن آي إتش)
تتألف المعاهد الوطنية للصحة (إن آي إتش) من حوالي (25) معهداً ومركزاً، منها ما يركز على مجال معين من المجالات الصحية من خلال تمويل أبحاث الطب الإحيائي ضمن نطاق جماعي داخلي، أو من خلال برنامج خارجي يقوم بدعم حوالي (50.000) عالماً في (2000) معهد في جميع أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية.
6 - الإدارة الوطنية لعلوم الطيران والفضاء (إن أيه إس أيه) (ناسا)
تقوم الإدارة الوطنية لعلوم الطيران والفضاء (إن أيه إس أيه) (ناسا) بتمويل الأبحاث في ثلاثة مجالات رئيسة هي: علوم الفضاء، علوم الأرض، الأبحاث البيولوجية والفيزيائية.
7 - مؤسسة العلوم الوطنية (إن إس إف)
تضطلع مؤسسة العلوم الوطنية (إن إس إف) بمهمة واسعة النطاق لتطوير وتعزيز التقدم في مجال العلوم والهندسة في الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك من خلال تمويل برامج في نطاق الأبحاث، وتدعيم ثقافة العلوم والأبحاث على كافة المستويات، وهي لا يوجد لديها مختبرات خاصة بها لذلك تقوم بتوفير حوالي ربع التمويلات الاتحادية وذلك من أجل الأبحاث الأساسية في قطاع التعليم العالي.
8 - وزارة الطاقة (دي أو إي)
تهتم برامج وزارة الطاقة (دي أو إي) بالطاقة، والأمن النووي الوطني الأمريكي، والجودة البيئية، وتقدم دعماً هاماً للعلوم الفيزيائية لبرامجها الخاصة بالعلوم.
9 - وزارة الدفاع (دي أو دي)
تركز وزارة الدفاع (دي أو دي) على البحث والتطوير العسكري، وفي أعقاب أحداث 11 سبتمبر 2001م، أصبح لديها تمويل إضافي من أجل البحث والتطوير في مجال التقنيات والأنظمة التي تتعاطى مع التهديدات الإرهابية.
10 - الجهات الأخرى التي لها ميزانيات اتحادية هامة للبحث والتطوير
تهتم العديد من الوزارات في الولايات المتحدة الأمريكية بأنشطة البحث والتطوير، وهناك عدد من الوزارات التي لها ميزانيات اتحادية هامة للبحث والتطوير ومنها طبقاً لتقديرات سابقة لمنظمة (OECD): وزارة الزراعة (1.9 بليون دولار أمريكي)، وزارة الداخلية (904 مليون دولار)، وزارة التجارة (861 مليون دولار)، وكالة حماية البيئة (797 ملين دولار)، وزارة النقل (548 مليون دولار)، وزارة التربية والتعليم (431 مليون دولار)، وزارة شئون المحاربين القدامى (409 مليون دولار).
11 - التعليم العالي
مؤسسات التعليم العالي في الولايات المتحدة الأمريكية من بين المؤسسات التي تجري البحوث والدراسات وتحظى بالنصيب الأوفر من الدعم والتمويل الحكومي الموجه لأنشطة البحث، ويحتوي النظام المتنوع للتعليم العالي في الولايات المتحدة الأمريكية على حوالي (300) مؤسسة، منها جامعات الأبحاث والدكتوراه (6.6%)، كليات وجامعات الماجستير (15.5%)، كليات البكالوريوس (15.4%)، كليات الزمالة (42.3)، المؤسسات المتخصصة (19.4 %)، الكليات والجامعات القبلية (0.7%). ومعظم الأبحاث تتم في جامعات الأبحاث والدكتوراه.
تتلقى معظم الجامعات العامة تمويلا من الحكومة مستندة بشكل كبير على عدد الطلاب بها، بينما أغلب تمويل الأبحاث يأتي من مصادر اتحادية، كما أن عددا كبيرا من الجامعات الخاصة للأبحاث المكثفة تتلقى أيضاً تمويلاً هاماً للأبحاث من جهات اتحادية. ويضطلع القطاع الخاص بأداء القسم الأكبر من أعمال الأبحاث والترجمة داخل الولايات المتحدة الأمريكية.
12 - معاهد الأبحاث الحكومية
يوجد بالولايات المتحدة الأمريكية عدد من المؤسسات الحكومية التي ما زالت تقوم بعدد كبير من البحوث، وتُعد بعض المؤسسات الحكومية قوة هامة في كافة جوانب البيئة البحثية وتسهم بطرق متعددة في لمساعي البحثية الوطنية، ولديها بعض القدرات الداخلية لتمويل البحوث. فبالنسبة لمعاهد الصحة الوطنية فإن قدراتها الداخلية تستهلك حوالي (10-11%) من تمويلها بحيث يكفي لكي تحافظ على إمكانيات بحثية كبيرة بما في ذلك أنواع معينة من الأبحاث والتي تعد مفضلة للبقاء داخل المؤسسة مثل الأبحاث الإكلينيكية، والمهام قصيرة المدى «العاجلة».
تنتهج بعض الوزارات الفيدرالية بما في ذلك الدفاع الطاقة، الصحة، شؤون المحاربين القدامى أسلوب التعاقدات البحثية، حيث لديها شبكة من المختبرات التي يمكن هيكلتها بشكل متنقل لتصبح مراكز للأبحاث الممولة اتحادياً، وتتعاقد مع الجهات الخارجية مثل الجامعة أو شركة في القطاع الخاص، ويعتبر بعض هذه المختبرات مصنفة وتعمل في مهام محددة، والبعض الآخر غير مصنفة ويمكن أن تشارك في نطاق واسع من أنشطة البحث والتطوير. ويمكن أن يكون حجم مشروعات الأبحاث في هذه المختبرات أكبر من حجم الأبحاث التي يتم القيام بها في أقسام ومراكز الجامعات.
تمتلك وزارة الدفاع أيضاً مرافق عديدة تشتمل على مختبرات للاستخدامات البحثية، بالإضافة إلى أن هناك أشكالا أخرى من مؤسسات الأبحاث العامة والهيئات الحكومية القائمة على أساس الشراكة بين الحكومة الفيدرالية وقطاع الصناعة الخاص، إضافة إلى ذلك فإن هناك مختبرات خاصة غير ربحية تقوم بأنشطة البحث والتطوير المختلفة تعتمد في تمويلها على الحكومة الاتحادية.
13 - الأكاديميات الوطنية
توجد في الولايات المتحدة الأمريكية الكثير من الأكاديميات التي تمارس أنشطة البحث والتطوير المختلفة، ومن أبرز هذه الأكاديميات الأكاديمية الوطنية للعلوم، والأكاديمية الوطنية للهندسة، ومعهد الطب والتي ينسق أنشطتها مجلس الأبحاث الوطني. الذي يقوم بنطاق واسع من الدراسات المؤثرة في مجال السياسات لصالح الحكومة.
14 - الهيئة الأمريكية لتطوير العلوم
هي مؤسسة مهنية رئيسة تتولى القيام بتحليل السياسات، وتنظم مؤتمراً سنوياً شاملاً في مجال البحث والتطوير يتناول جميع مجالات العلوم، إضافة إلى ذلك هناك عدد مختلف من الجهات المهنية والمطبوعات ذات الاهتمامات الخاصة تعمل بنشاط في الولايات المتحدة الأمريكية، وتوفر الإرشادات اللازمة لمختلف أنشطة البحث والتطوير. والتي بدورها تسعى للاستفادة من مخصصات دعم وتمويل البحوث.
المحور الثاني:
تمويل البحث والتطوير في الولايات المتحدة الأمريكية
تمر الميزانية في الولايات المتحدة الأمريكية بمراحل معقدة وطويلة لتخصيص المخصصات الميزانية الاتحادية. حيث تمتد لمدة ثلاث سنوات في طور التشغيل أو الإعداد، وتنطلق عملية الموازنة بمقترحات الوزارات والجهات التي يتم تسليمها لمكتب الإدارة والميزانية في صيف السنة المالية الذي يبدأ شهر أكتوبر من السنة التالية، وفي بداية السنة الجديدة يقوم الرئيس بتسليم طلب الميزانية الموحدة إلى السلطة التشريعية (الكونغرس)، حيث يتم دراستها وتمحيصها من خلال ثلاث مستويات من اللجان (لجان الميزانية، ولجان الإجازة، ولجان المخصصات) وتشمل البيت الأبيض ومجلس الشيوخ. ويتم التعامل مع ميزانية البحث والتطوير الاتحادية بطريقة جزئية من خلال (21) لجنة مختلفة لها مسؤوليات مباشرة لسياسات أو تحويل الأبحاث والتطوير الاتحادية، ومن ثم فإن ميزانيات الإدارات والجهات يمكن أن يتم تخصيصها عن طريق هذه اللجان، وفي كل مرحلة من هذه العملية يتم مراجعة العروض مع إمكانية تعديلها.
تستند الولايات المتحدة الأمريكية إلى تقاليد راسخة في التمويل البحثي الشامل، ويتم تنسيق وتمويل سياسة البحث والتطوير الشامل للولايات ضمن الإطار الاتحادي، ويتولى مكتب سياسة العلوم والتقنية تحديد الأولويات للأبحاث الممولة من قبل الحكومة، وتخصيص الموارد المالية للأبحاث والمؤسسات البحثية، ولكن موارد المكتب تظل محدودة لهذا تقوم المؤسسات الخيرية الرئيسة بتوفير تمويل ضخم لمؤسسات البحث والتطوير. بعض هذه المؤسسات تم إنشاؤها منذ زمن طويل مثل مؤسسة «كارنيجي»، والبعض الآخر منشأ منذ وقت قريب مثل مؤسسة «واليت».
تسعى الحكومة الأمريكية إلى تحفيز الاستثمار الخاص في الأبحاث من خلال تقديم التسهيلات الضريبية حيث تقدم حالياً تخفيضاً ضريبياً بنسبة (20%) لنفقات الأبحاث الخاصة والتجارب فوق حد أدنى معين، ويتأثر تحديد الأولويات والأهداف بمقدار ما يتم الحصول عليه من هذه الحسومات الضريبية، كما أن العمليات الاستشارية تعتبر أحد مصادر تمويل المؤسسات البحثية من خلال ما يقدم للجهات المستفيدة.
يدعم التمويل الاتحادي (27%) من الصفقات الوطنية في مجال الأبحاث و(49%) من النفقات الأساسية للأبحاث، ويتسم التمويل الاتحادي للأبحاث بأفق زمني أوسع ويمكن أن يكون أكثر استقراراً في الاستثمارات من موارد أخرى، أما تمويل الأبحاث على مستوى الولايات فإنه لم يكن كبيراً وغالباً ما يركز على المهام، رغم وجود فرص يمكن أن تجلب إسهامات مالية كبيرة للبحث والتطوير في بعض الولايات، وقد تكون أحياناً علاقة التمويل مباشرة بين المؤسسة البحثية والجهة الممولة بحيث لا يوجد جهة مركزية وسيطة تقوم بدور التنسيق لهذه المؤسسات في شبكة عضوية كما هو الحال في بعض البلدان الأخرى.
يتولى قطاع التعليم العالي ما يزيد على (نصف) الأبحاث الممولة على المستوى الفيدرالي، ويلاحظ أن (58%) من الأبحاث والتطوير في الجامعات يتم تمويلها من موارد اتحادية، أما غالبية النسبة الباقية فهي تعتمد على مصادر التمويل الذاتي من المؤسسات المستفيدة، كما يلاحظ أن القطاع الصناعي يدعم التعليم العالي بنسبة منخفضة حوالي (7%). بينما تتولى معاهد الصحة الوطنية تمويل نحو (ثلثي) الأبحاث والتطوير على المستوى الفيدرالي، لـذا .. تمثل علوم الحياة حوالي (58%) من مجمل الأبحاث والتطوير في قطاع التعليم العالي، وتمثل الهندسة (15%)، والعلوم والفيزياء (9%) من إجمالي الأبحاث والتطوير (RالجزيرةD)، ويشهد إجمالي التمويل الاتحادي للأبحاث الأساسية والتطبيقية ارتفاعاً مع منح الأولوية لأبحاث مكافحة السرطان والإرهاب البيولوجي.
يبدو أن مؤسسات الأبحاث العامة الممولة اتحادياً لا تواجه صعوبات مالية شديدة كما هو الحال في الجامعات الحكومية التابعة للولايات، وذلك لتطبيق عدة طرق لتمويل هذه الجهات، فمثلاً تتنافس مختبرات وزارة الطاقة فقط فيما بينها للحصول على الأموال التي تخصصها وزارة الطاقة داخلياً لمجال العلوم، بينما تعتمد الجامعات على الميزانية الخارجية، في حين تتنافس مختبرات وكالة ناسا مباشرة على التمويل مع الجامعات حيث يعمل كل مختبر مستقل في السعي للحصول على تمويل تنافسي من مصادر مختلفة، وكذلك فإن مختبر «لورانس بريكلي» التابع لوزارة الطاقة يتبع لوزارة الطاقة وتديره كل من مكتب الرئيس وجامعة كاليفورنيا تحت نظام التعاقد ولا يتم تمويله بنظام المنح المخصصة لأغراض معينة. وفي بعض الحالات توجه المخصصات المالية للأبحاث بالتكاليف المستقبلية وذلك بالنظر إلى النجاح في الماضي.
على الرغم من عدم وجود خطة وطنية واحدة للأبحاث والتطوير في الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أن مكتب سياسة العلوم والتقنية (التابع للبيت الأبيض) يتولى مهام تنسيق أنشطة العلوم والتقنية على المستوى الفيدرالي.
يستحوذ القطاع الخاص في الولايات المتحدة الأمريكية على نسبة عالية من أنشطة البحث والتطوير، ويتولى قطاع التعليم العالي معظم مهام الأبحاث والتطوير بالتنسيق مع المؤسسات الصناعية الخاصة، أما بالنسبة للمملكة فإن السياسة الوطنية للعلوم والتقنية تتبنى توجهات واضحة حيال تنمية وتطوير أنشطة البحث العلمي في المملكة، ويُعد إسهام القطاع الخاص في القيام بأنشطة البحث والتطوير ضعيف جدًا، عدا بعض الجهود الملموسة التي تضطلع بها شركة أرامكو وسابك والإلكترونيات المتقدمة. وعلى عكس ما هو سائد في الولايات المتحدة الأمريكية توجه مؤسسات التعليم العالي في المملكة معظم جهودها البحثية نحو البحوث الأساسية المخصصة غالباً لأغراض الترقيات العلمية.
تشير تجربة الولايات المتحدة الأمريكية إلى أن قطاع التعليم العالي يستحوذ على ما يزيد على (نصف) الأبحاث الممولة على المستوى الفيدرالي، كما يلاحظ أن القطاع الصناعي يدعم التعليم العالي بنسبة حوالي (7%). ويشهد إجمالي التمويل الاتحادي للأبحاث الأساسية والتطبيقية ارتفاعاً مع منح الأولوية لأبحاث مكافحة السرطان والإرهاب البيولوجي. وفي المملكة يأتي نصيب قطاع التعليم العالي فيما يتعلق بتمويل أنشطة البحث العلمي في مرحلة لاحقة لمدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية، كما أنه لا يوجد توجيه محدد للمشروعات البحثية ذات التهديد للأمن الوطني والنظام الدفاعي والأمني كما هو الحال بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية.
تتقاسم الدولة والقطاع الخاص في الولايات المتحدة الأمريكية الإنفاق على البحث والتطوير تقريباً، فنسبة (46%) مصدرها الدولة، و(50%) مصدرها الشركات، بينما (4%) تأتي من مصادر أخرى، أما بالنسبة للمملكة فالإنفاق الحكومي هو الممول الرئيس لأنشطة البحث العلمي، ويعتبر إسهام القطاع الخاص ضعيف جداً ومحدود للغاية في تمويل وتنفيذ أنشطة البحث والتطوير للاعتقاد السائد أن العائد الربحي من ورائه بعيد الأجل وغير مباشر وقد تستفيد منه جهات منافسة، كما أن دور الوقف الخيري وأوجه إنفاق البر تبدو معطلة في هذا الجانب.
تبني تنويع مصادر تمويل أنشطة البحث والتطوير وتفعيل آلياته في المملكة معطى لا ينبغي تجاهله في ظل تنامي التحديات والمخاطر المركبة التي أفرزتها الحروب والصراعات الإقليمية مجهولة النهاية والتي بدورها زادت الضغط على الجهد المبذول من النظام الدفاعي والأمني، إضافة إلى متطلبات مكافحة الإرهاب المتزايدة خاصة في مجال التقنية التي تستند إليها خطط المواجهة والمعالجة باعتبارها مدخل أساس لإجراءات التصدي.
ترسيخ التعاون مع المنظمات الدولية ذات العلاقة بالعلوم والتقنية والبحث والتطوير، والاستفادة من التجارب الدولية الناجحة في هذه المجالات، والتوجه القائم بتبني اعتماد مفهوم القيمة المضافة في عناصر الإنتاج، وتطبيق مبادئ الاقتصاد المبني على المعرفة في ظل سياسات مجلس الشئون السياسية والأمنية، ومجلس الشئون الاقتصادية والتنمية تقتضي هذه التوجهات إنشاء «وزارة متخصصة للعلوم والتقنية والبحث والتطوير»، بحيث تتولى مهام التنسيق بين الوزارات والجهات المختلفة بشأن احتياجاتها من الأبحاث والتطوير، ومتابعة تنفيذ الخطة الوطنية للعلوم والتقنية، ومباشرة مسئولية التطوير الشامل لاستراتيجيات العلوم والتقنية في كافة الجهات الحكومية، ووضع سياسات وآليات تنفيذية ملائمة للمملكة بشأن مصادر تمويل الأبحاث والتطوير، وتقييم المشروعات البحثية الإستراتيجية ذات العلاقة بالنظام الدفاعي والأمني، والتنمية المستدامة والأمن الوطني بكل أبعاده ومقوماته.