محمد عبد الرزاق القشعمي
تسلمت شاكراً هدية رجل الأعمال عبدالرحمن عبدالقادر فقيه (لمحات من حياتي) سيرة ذاتية، وسعدت وأنا قرأ ما باح به من قصص وذكره مما علق بالذاكرة من أيام الطفولة،
ولعبة (الكبوش) التي نطلق عليها بالرياض (الكعابة) وهي عظام مفصل القدم (العرقوب) في الماعز أو الخراف بعد طبخها.
وعند حفظه لجزء من القرآن الكريم لدى الكتاب والطواف حول المسجد (صرافة) التي نسميها بالرياض (الختمة) ولها طقوسها ومظاهر فرح الاحتفال بها، ثم انتقاله للحصوة بالمسجد الحرام وتلقيه الدرس لدى الشيخ عيسى رواس الذي يعمل جزاراً ليقتات من عرق جبينه رغم حلقته في المسجد الحرام وقد حفظ من قوله: «ينبغي أن نجعل الدرس سبباً للاعتذار عن أي عمل، ولا نجعل أي عمل عذراً عن الدرس» وذلك لاعتذار بعض طلبته عن الحضور، ثم دخوله للمدرسة رغم انشغاله مع والده في صباغة الأقمشة وبألوان مختلفة فكل يوم يذهب للمدرسة ويداه بلون، ولشطارته يصبح عريف الفصل، ويكتفي والده بحصوله على الشهادة الابتدائية التي تسلمها من نائب الملك في الحجاز (الملك فيصل) وتفرغه للعمل مع والده في الدكان الصغير الذي بدأ يبيع الأصبغة بالمفرق وتعليم المشتري كيف يمزج الألوان ويعدها لصبغ الملابس، وقد قاده طموحه لتعلم اللغة الإنجليزية حتى يراسل الشركات التي يرد منها الأصباغ.
ومع ذلك يلومه والده عندما رآه يقرأ كتاب زكي مبارك (ليلى المريضة بالعراق) رغم أن والده لا يقرأ ولا يكتب وعند سؤاله قال إن هذا سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم. ولكنه علم بعد ذلك أنه يكذب عندما زاره أحدهم وأراه الكتاب.
وبعد أن عرف طريقة مراسلة الشركات ألم ببعض كلمات تعلمها بالإنجليزية- كتب ما وجده من اسم وعنوان يكتب على ظهر الطرود التي تصلهم بالأصباغ والأقمشة، فأرسل الرسالة إلى أحد مصدري الأصبغة في الولايات المتحدة، رغم أنها رسالة مختصرة لا تتجاوز 3 أسطهر أدت الغرض، وكانت المفاجأة وصول جواب باسم والده وطرد صغير من الصبغات، وكانت المفاجأة، وسعر المعروض لا يزيد على 25 في المائة من القيمة التي كان يتقاضاها منهم المستورد السابق رغم أنه صديق لوالده ص 51 فانفتح له الباب وزادت ثقة والده به وكسب رضاه، فأصبح دكانهم رغم تواضع مستواه على مستوى التجار المستوردين فأحدث نقلة متقدمة في مسيرته التجارية فبدأ بتنويع مصادر التجارة من الأصباغ إلى بيع القصب والعقل و(الترتر) (ص52).
وقال إن طريق النجاح ليس مفروشاً بالورود، ورفع شعار (أن تفيد وتستفيد) مع الاكتفاء بالربح المعقول. فركز على رفع مستواه لتعليم اللغة الإنجليزية بشكل أفضل لمراسلة الشركات الأجنبية الكبرى في أمريكا وأوروبا- هذا وهو ما زال في السابعة عشرة من عمره يعمل بجد ومثابرة.
وجاءت الحرب العالمية الثانية وتقلص عدد الحجاج وضعف النشاط الاقتصادي وسادت حالة الكساد، وتوقف الاستيراد عدى ما يصل من الهند رغم مضاعفة سعره عشرات المرات.
لم يضع الفائض من وقته بل استفاد من المدرسين المصريين الذين كانوا يُدرِّسُون الطلاب في مدرسة تحضير البعثات كمدرسين خصوصيين وبالذات في مادة (الكيمياء) وعلق على ذلك والده قائلاً. استغلال وقت الفراغ بدل من (الصياعة) وهو يصف بها الشباب الذين لا يشغلون أوقات فراغهم إلا بالمقاهي الشعبية وغيرها.
وقال إنه لا يضيع وقته إلا بحضور المناسبات الاجتماعية لأداء الواجب ويستضيف أهله الأهل والمعارف. فكان ذلك بالنسبة له قمة التسلية وأقصى ما يحلم به.
وبسبب الحرب العالمية الثانية وُشْح المواد الغذائية وارتفاع الأسعار وبالذات الكمالية إذ أصبح سعر فنجان الشاي خمسة ريالات فكر في تصنيع الفناجين محلياً وفشل لعدم وصول درجة الصهر إلى درجة عالية، وكان يعتقد أن إذابة الزجاج بعد تجميع المتكسر من النفايات وغيرها وإعادة وضعها في القوالب.
ولكنه عرف بعد فشل تجربته أن مادة صناعة الزجاج عن طريق النفخ وليس صبه كسائل، وبعد اخفاقه في تصنيع الزجاج لم ينهزم بل اتجه إلى طرق باب جديد إلا وهو صناعة الصابون فلجأ إلى كتاب (الدر المكنون في الصناعة والفنون) الذي وجد به أن الصودا الكاوية تصنع بإضافة محلول (بيكر بونات الصوديوم) إلى محلول (بيكربونات الكالسيوم)، فاشترى (الكربونة) من العطار و(الرخام) من محلات بيع مواد البناء وغلاهما ثم مزجهما حتى وصل إلى تصنيع الصابون ولكنه لم يوفق في تصنيع ختم للماركة ولا في التسويق لعدم توافر الإمكانات المادية وغيرها. كل هذا وعمره لا يتجاوز السابعة عشرة ومع ذلك لم ييأس ففكر بإيجاد مادة تزيل الأصبغة عن الملابس فنجح في إنتاج الكلور على شكل غاز مذاب في الماء، وجربه بتنظيف ملابسه وثياب العاملين معه فنجح بتعبئتها بقوارير محدودة وبيعها، وذلك بواسطة أدوات منزلية بسيطة... ومع فشله في صناعة الفناجين والصابون وأخيراً الكلور لم ييأس فقد فكر في تصنيع مادة (النشا) وهي مادة طبيعية تستخرج من الذرة، فأحضر كميات من الذرة البيضاء فاستخرج كمية محدودة وبدائية ومع ذلك تكللت بالنجاح.
وانتهت الحرب العالمية الثانية وانفرجت الأزمة وفتح باب الاستيراد.
ففكر جدياً في الاتجاه إلى مجال آخر من مجالات التجارة بدلاً من الصباغة، وبالصدفة وأثناء قضاء العائلة فصل الصيف بالطائف بجوار دار البعثة الأمريكية التي تقوم بتدريب الجيش السعودي شاهد بعض العلب الملقاة في حاوية القمامة وقد كتب عليها ما ترجمته (سمن نباتي) وبحكم الجوار طلب منهم علبة من السمن فوجده أقرب للسمن البري -الذي انقطع لقلة المواشي بسبب نضوب الماء وقلة المراعي- فوجد عنوان الشركة على العلبة، فراسلها وخاف والده من الفشل كما سبق، فطلب منه أن يتولى الموضوع بنفسه وهو المسؤول عن نجاحه أو فشله، فكاتب الشركة الهولندية ووجد لها منافسين في دول أخرى فراسلهم لمعرفة فوارق الأسعار ونوع السمن وأفضله، فقر رأيه على الشركة الهولندية باستيراد طنين من السمن، وبهذا يصبح أول مستورد للسمن بالمملكة ولكن ليس من السهل إقناع المستهلك بهذا السمن النباتي.
وعلى الذوق -تفرغ العلبة بوعاء يسهل تذوقه- وأخذ عينات للتجربة بالمنازل، مما حمله على طلب المزيد وبعبوات وأوزان مختلفة، وقد كتب على العلب (سمن فقيه) وصورة لرأس البقرة، وبدا وضع يفط بالشوارع للدعاية وكتب فيها: (عز الطلب.. والأكل به وجب) و(القيمة) الغذائية ليست بالكمية ولكن بالفيتامينات الفنية) و(رأس البقرة له العجب) وبذلك يعتبر أول من طبق أسلوب الإعلانات الدعائية في الشوارع والصحافة، فنجح بذلك وتوسعت تجارته بفضل الحملة الإعلانية فبدأ بتمويل المؤسسات الحكومية مثل: الضيافة الملكية، ووزارة الدفاع وغيرها وانتشرت بعد ذلك في المنطقتين الشرقية والوسطى بواسطة موزعين ووكلاء. واستطاع بعد عشرين عاماً تغطية 80 في المائة من حاجات البلاد. وبعد بداية المنافسة وتعدد أنواع الزيوت النباتية المستوردة والحملات الإعلانية الكبيرة بدأ الاقبال يقل، فاتجه للمشاركة في تأسيس شركة (صافولا) للزيوت والسمن النباتي. ومنها إلى صناعة الدواجن والبيض البلدي -ولهذا قصة طويلة تستحق أن تروى فيما بعد- ولكن وكما قال عبدالرحمن فقية في روايته لسيرته: «والعبرة من هذه القصة رغم طرافتها التي أود أن تصل إلى شبابنا، أن العمل مهما يبدو أنه صغير أو متواضع، وأن المهن مهما كانت نظرة الناس لها تتسم بالاستخفاف والتقليل من شأنها، فإنها شرف لمن يقوم بها ويؤديها، ولا يستنكف من ممارستها طالما أنها لا تنتقص من كرامته وشرفه وكسبها حلال ومن عرق جبينه وجهده وساعده، وألا يعير التفاتاً لكلام الناس أو نظرتهم القاصرة». قال هذا بعد أن زاره العمدة عبدالله الصالح أبو الريش قائلاً إن الناس يتهمونك أنك تبيع الدجاج.
ومن الدواجن أقام: مركز فقيه للتدريب والتوظيف، ومصنع فقيه للأعلاف، ومصنع فقيه للأسمدة العضوية، ومطاعم الطازج، وشركة عصر البذور.
ثم جاء المشروع الضخم (شركة مكة للإنشاء والتعمير) ونجاحها وفوزها بالمركز الأول من بين 650 شركة عالمية عمرانية من منظمة اليونسكو التابع للأمم المتحدة، وبلدية دبي.
لا ننسى أيضاً أعماله الجليلة الأخرى مثل: مركز فقيه للأبحاث والتطوير، والمشاريع السياحية، ومشروع تطوير جبل عمر، ومدارس عبدالرحمن فقيه النموذجية وغيرها.
وتقديراً للكتاب طباعة وإخراجاً ووضوحاً للصور إلا أنه لا يخلو من أخطاء مطبعية بسيطة مثل (جلعت) بدل جعلت ص34، و(الشكبية) بدل الشبيكة ص101، مشاء الله والصحيح ما شاء الله ص183، وتنقيط التاء المربوطة والمتكرة في ص157 و188، ويفي باجتاحات والصحيح احتياجات ص217، في وقت ما، قل زمن بعيد والصحيح قبل ص225، مع أن الشيء ولنظام يؤيد هم والصحيح والنظام ص284، الأول لممركز مكة والصحيح لمركز ص309، ظاهرة الأكلات السريعة والصحيح الأكلات ص337. سليمان فقيه رحمها الله والصحيح رحمه الله ص343، التي تربيط بين الأصدقاء والصحيح تربط ص348، لجنة الساقية والرفادة والصحيح السقاية ص359 وأن السيد محمد طاهر الدباغ أول مدير للمعارف ص28 و49 والصحيح أن هناك من سبقه، ولم أجد صورة الصحفي وأمين العاصمة عبدالله عريف بين صور من ذكرهم. وهذا لا يقلل من قيمة وروعة هذا الكتاب الجميل.