عمر إبراهيم الرشيد
يوم السابع عشر من هذا الشهر الفضيل حلت ذكرى بدر الكبرى، ذلك الحدث الذي غير مسار التاريخ، والذي قال فيه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وقائد المعركة وهو قائم يدعو ربه (اللهم إن تهلك هذه العصابة (أي الجماعة) فلن تُعبد في الأرض). وكان يقصد أنّ الذين معه إنما هم قوة الإسلام في ذلك الحين فإن هُزموا فسوف تنقض قريش على الباقين في المدينة فتقضي على المسلمين، ومن ثم على الدعوة المحمدية والله أعلم.
بالطبع ذكرى كهذه لا يمكن استرجاعها دون إسقاطات على واقعنا المعاصر، ولإنعاش الذاكرة التاريخية يحسن التذكير أن المسلمين لم يسعوا للقتال وإنما كانوا في موقع دفاع عن النفس، فهم اضطروا للخروج لصد قريش عن الهجوم على المدينة عاصمة النبي الكريم ودولته، بثلاثمئة مقاتل أو يزيدون قليلاً وأكثرهم مشاة وقلة من الخيالة والعتاد، بينما قريش يقاربون الألف مقاتل وأكثر عدة وسلاحاً وخيّالة، دليل الاستعداد والتخطيط للحرب بغض النظر عن وصول قافلتهم آمنة أو الاستيلاء عليها من قبل المسلمين. وللتذكير أيضاً فإن عدد من قتل في غزوات ومعارك طوال الفترة النبوية لا يزيد على ألف وأربعمئة، في غزوات كان المسلمون فيها يدافعون عن أنفسهم ضد المتربصين بهم من قريش والقبائل المناوئة لهم في الجزيرة العربية.
في واقعنا الحالي صار القتال هدفاً بذاته واستعرت شهوة القتل والتدمير فأعمت البصائر حتى صارت هذه المجاميع المتناحرة كالفيلة العمياء تدوس ما في طريقها وهي مهتاجة. والمصيبة الكبرى أنّ الأعداء الحقيقيين من صهاينة وغلاة فرس لا تنالهم أقدام هذه الفيلة وكأنهم على علم بأحوالها من قبل فأخذوا احتياطاتهم وتجنبوا شرورها.
معركة بدر ليست قصة غزوة انتصر فيها المسلمون وانتهى الأمر، هي معجزات وعبر ودروس ومبادئ وحقوق إنسان. هل تم قتل الأسرى فيها من قريش أم فدى كل أسير نفسه بمال أو بمحو أمية المسلمين في صفقة إنسانية تعطي حجة دامغة أن المسلمين والإسلام ككل ليس دين حرب وقتل وتدمير، بل حضارة وبناء وإنسانية. من عبر هذه المواجهة أيضاً، أن القوة وحدها لا تعني التفوق، طالما لم يكن هناك مبدأ صحيح وروح مؤمنة تطوع الإمكانات المتوفرة لتأتمر بأمرها. ثم لا ننسى فوق كل ذلك التمكين الإلهي الذي لا يحتاج إلى شرح أو تحليل عسكري، ومعروف أن الملائكة شاركت في المعركة كما هو ثابت في القرآن الكريم والسنّة المشرفة والسيرة العطرة.
ما يحدث الآن في عالمنا المخطوف باسم الإسلام إنما هو حرب على الإسلام وطعن له في ظهره، وخدمة لطالما حلم بها أعداء هذه الأمة فأتتهم كما يشتهون، بعلم هذه الحشود العمياء أو بدون علمها. اختلط الحابل بالنابل كما يقول المثل وحجب هذا الدخان العظيم وغبار هذه الحروب الرؤية فغدا الحليم حيران كما ورد في الحديث النبوي عن فتن آخر الزمان، فاللهم اعصم الأبرياء من هذه الفتن المظلمة كقطع الليل. وبالطبع هناك من يكافح لنيل حقوقه واقتلاع من يسومهم سوء العذاب أو يحيق بهم للنيل منهم كإخواننا في اليمن وسوريا، {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ}.
عندما انتصر النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه وفتحوا مكة، كتب النبي الكريم على صفحة السماء أعظم القيم الإنسانية، دخل مكة وهو حاني الرأس فوق ناقته تواضعاً لله الناصر المعز مسبحاً ومكبراً، لم يدخل مزهواً يقتل ويحرق ويسبي كما يفعل أناس اليوم في مسلمين مثلهم أو حتى غير مسلمين كفل الإسلام لهم المعاملة الإنسانية. وأين هم من نبي الإنسانية حين سلمت له مكة وطنه الذي هجر وأبعد منه وغدا أعداؤه من قريش بين يديه يفعل بهم ما يشاء انتقاماً له ولدعوته وللمسلمين. أليس العفو عند المقدرة كما تقول الحكمة، ثم إن السؤال حين قال لهم (ما تظنون أني فاعل بكم؟) كان من أهدافه إقرارهم على صدق دعوته وإنه نبي مرسل إذ إن الانتقام والتشفي والبطش ليست من شيم الأنبياء ولا من شيمه حين كان بينهم في مكة، وكفار قريش يعلمون ذلك وإن لم يصرحوا به، دل على ذلك إجابتهم على سؤاله (أخ كريم وابن أخ كريم). حتى صدر أسمى وأعظم حكم قضائي في الأرض منذ خلق آدم (اذهبوا فأنتم الطلقاء).
ذكرى كهذه تعيد تذكيرنا بالقراءة بين السطور، بإعادة قراءة ما نظن أننا فهمناه، سواء بسبب تعليم بالتلقين أو مجرد قراءة خالية من التحليل والاستنتاج الذي لا يقتصر على علوم الطبيعة والفيزياء والرياضيات، بل إن القرآن الكريم الذي نزل في هذا الشهر الفضيل والسنّة النبوية الشريفة فيهما من الكنوز المعرفية والعقلية ما لم يكشف إلا النزر اليسير منه إلى جانب المسائل الروحية والتعبدية كذلك. فلنعمل التفكير ولنعد قراءة تاريخنا وتراثنا ولنتفكر بمعاني عباداتنا لنستظهر جمالها ونشعر بلذتها، فتنعكس على سلوكنا العام وأخلاقيات حياتنا اليومية وسعينا للبناء والتحضر، تقبّل الله صيامكم.