د. عبدالحق عزوزي
أقيمت مؤخرا ندوة حول مشروع تعديل القانون الجنائي المغربي، وكان ينتظر أن تتحول إلى مناظرة بين حزبين في الحكومة بسبب اختلاف مرجعيتيهما الأيديولوجية، ولكن أظهر حزب التقدم والاشتراكية اليساري، وحزب العدالة والتنمية ذو المرجعية الإسلامية ومتزعم الائتلاف الحكومي، تناغما غير مسبوق ،
وذلك خلال مناقشة مشروع القانون، الذي أثار جدلا واسعا، لا سيما في ما يتعلق بالنصوص ذات العلاقة بالحريات الفردية.
وأكد نبيل بن عبد الله، الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية (الشيوعي سابقا)، مخاطبا وسائل الإعلام: «لا شك أنكم توقعتم أن يقع تطاحن خلال هذه الندوة، وأن يظهر شرخ في هذه الحكومة.. لكن لا، ثم لا»، قبل أن يضيف «على الرغم من ظهور بعض الاختلافات، فإننا لن نصل إلى ذلك، لأنه من ذكاء هذه الحكومة أننا استطعنا خلال ثلاث سنوات ونصف سنة، أن ندبر خلافاتنا بالعقلانية والجدية، بما يجعلنا نزكي ونقوي ديمقراطيتنا المغربية».
كلام بن عبد الله وجد له صدى طيبا لدى مصطفى الرميد، وزير العدل والحريات، الذي أعدت وزارته القانون، حيث أثنى على مداخلة بن عبد الله، وزير السكنى وسياسة المدينة، الذي بادر حزبه إلى الدعوة للنقاش بشأن القانون الجنائي. وقال الرميد إنه «يكاد يكون متفقا مع كل ما جاء فيها»، مضيفا: «استطعنا كحكومة تحقيق التقارب ليس إلى حد التماهي، ولكن إلى حد أن نتوافق على نصوص قانونية من شأنها تحقيق التقدم للبلاد». وأبدى الرميد استعداد وزارته «لإعادة صياغة مشروع القانون إلى حين التوصل إلى النص الواحد». ولكن الذي أعجبني هنا هو توقف وزير العدل المغربي عند حيثيات تجريم ازدراء الأديان، وقال إن مسودة مشروع تعديل القانون الجنائي تنص في هذا الباب على أنه «يعاقب بالحبس من سنة إلى خمس سنوات كل من قام عمدا بالسب أو القذف أو الاستهزاء، أو الإساءة إلى الله والأنبياء والرسل في الأماكن العامة، أو بواسطة المكتوبات، ووسائل الاتصال المسموعة والمرئية والإلكترونية وغيرها»، موضحا أن المادة لم تتحدث عن الإساءة للديانات، بل إلى الله والأنبياء والرسل «حتى لا يفهم منها أنها تضييق على حرية الفكر والرأي»، مشيرا إلى أن النص لا يتحدث عن العقيدة الإسلامية فقط، بل يحمي أيضا العقائد الأخرى، وهو ما عده «انفتاحا وتقدما لا نجده في المنظومات التشريعية العربية» قبل أن يضيف وزير العدل المغربي إن الإرهاب أصبح مرتبطا بالإساءات لعقائد المسلمين، وأن «بعض العناصر تتحرك غيرة على دينها، ليس عن طريق الاحتجاج الحضاري، وإنما عن طريق القتل»، مستشهدا في هذا الصدد بالعمل الإرهابي الذي استهدف مجلة «شارلي إيبدو» الفرنسية، وقبله الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم في الدنمارك.
نعم إنها مبادرة يصفق عليه وطريق حضاري يجب أن يكرر في كل التشريعات الدولية؛ ونعلم جميعا إن المجتمعات في ظل تنامي العولمة تتقاسمها مخاوف متشابهة ومتبانية، وتسعى جاهدة لإعمال كل طاقاتها القانونية والمؤسساتية لمعالجتها أو لاستباقها. فمن هجرة منظمة وسرية من دول الجنوب إلى دول الشمال، وكل التداعيات الأمنية التي تطرحها في دول الاستقبال والأسباب الاقتصادية والاجتماعية التي دعت إلى ذلك في دول الجنوب، إلى إرهاب عابر للقارات والحدود، مرورا بالصراعات والحروب التي تودي بحياة الآلاف من البشر، كلها عوامل غذت جذور اللاتفاهم والتنافر بين الشعوب والأمم وأضحت تنمي أغصان الكراهية والشنآن وتولد نظريات التشاؤم والمخاوف المتتالية.
لقد غدا العالم قرية صغيرة في ظل السلطات الجديدة للعولمة وأصبح للأفكار الرائجة مغزى وأبعاد وانعكاسات مباشرة على العديد من الأمم والقارات، فالرسوم الكاركاتورية الدانماركية المشوهة للرسول المصطفى محمد (ص) والتي أثارت ردود فعل عنيفة من الدول الإسلامية والكلمات المغلوطة حول الإسلام التي كان قد عبر عنها البابا بونوا 16 في محاضرة ألقاها في جامعة راتسبون سنة 2006، كلها أحدثت في الدقائق التي تلت صدورها انعكاسات مباشرة في العديد من الأقطار والشعوب وغليانا شعبيا كبيرا لا يفتأ يكبر إذا لم تخمد المسببات في إبانها. هذا من جهة. ولكن الداهية العظمى والمصيبة الآزفة والطامة الكبرى التي ليس لها من دون الله كاشفة هي تلكم الرواسب والتراكمات الخاطئة والأفكار المسبقة التي تقبع في أذهان الناس والتي لا تفتأ تنمو وتترعرع مع الأحداث التي تعج في الساحة الدولية.
أعطي مثالا حيا على ذلك. درست في الجامعة المغربية إلى حدود الإجازة ثم أكملت تعليمي العالي في الجامعة الفرنسية بفرنسا، ومن بين المواد التي درستها في كلتا الجامعتين نظريات العلاقات الدولية ومن بينها نظرية «صدام الحضارات» لصامويل هانتنغتون، وهي نظرية خاطئة ومغرضة لعدة أسباب، ولكن ما يهمني هنا هو مدى تجاوبي أنا وزملائي الطلبة المغاربة في الجامعة المغربية والطلبة الفرنسيين والأجانب في الجامعة الفرنسية أثناء دراستنا لها. هناك تباين جلي في التلقي والتجاوب، فالطلبة المغاربة احتكموا بصورة حقيقية ومرضية إلى واقع الحضارة العربية والإسلامية أثناء تلقيهم من الأستاذ المحاضر لجوانب هذه النظرية، أما الطلبة الفرنسيين والأجانب (ما عدا الأفارقة والآسيويين منهم) فقد كانوا يحتكمون إلى النظرية كما هي بل ويغذوها أيضا انطلاقا من نظريات مشابهة لها ويبقون في هذا الحد من الفهم دون الغوص في خبايا التاريخ وعلم الاجتماع والحضارة لبناء نقد ذاتي لنظرية رغم بساطتها لها من النتائج على الفكر والنظرة إلى الآخر ما ليس لغيرها، وإذا دخلت في حديث فكري معهم وجدت نظرتهم إلى الحضارة العربية والإسلامية نظرة محقرة، وإذا بحثت معهم فوق الحشائش وتحت الحشائش فلن تجد علما ولو بسيطا بتاريخ وواقع الحضارة العربية والإسلامية، بل مجملها سطحيات تفند بواقع العلم والحقيقة، والأدهى أن نظراتهم تغذى بإسقاطات على وقائع ليس لها لا مرجع ولا أصل منصف، وما زلت أتذكر يوما سألت أستاذا من أصول ألمانية توماس ليندمان Thomas Lindeman وهو من كبار منظري العلاقات الدولية في الجامعات الأوربية عن جدوى إدراج نظرية هانتنغتون في مادة السلك الثالث وفي هذا المستوى من التعليم لأن هانتغتون لا يمكن عده من منظري العلاقات الدولية ولا نظريته تصلح لأن توضع كند مع نظيراتها في العلاقات الدولية، فكان من إنصاف هذا الأستاذ أن ساندني الرأي ولكن دون الخوض معي ومع زملائي عن ماهية إدراجها ضمن المقرر. نعم إنه الجهل العميق بالواقع، والتراكمات المغلوطة التي تخلق صورا مشوهة حول الآخر، والعينة التي أخذتها هي عينة الطلبة ذوي كفاءة كبيرة في الحكم والنقد وعلى مستوى كبير من العلم وذوي الاختصاص في المجال، فما بالك بالرجل الغربي العادي الذي لا يتغذى فكره إلا بوسائل الإعلام...
وأنا لست هنا في وارد إلقاء اللوم على الغرب وحده لجهله الكبير بالآخر المسلم، فالعكس في بعض الأحيان صحيح، ولكن العالم الإسلامي محاط اليوم بشتى أنواع الإكراهات في علاقته بالغرب؛ والإسلام الذي هو أصل عقيدته وقوام هويته متهم في الأذهان الغربية بكونه دين الغلو والتطرف والإقصاء بل وحتى الثقافة العربية-الإسلامية متهمة على كونها تميل إلى التقليد المحبط وتغذي خصوصياتها الحضارة العربية والإسلامية، وهي المرجع الرئيسي حسب زعمهم لحركات الإرهاب في العالم. وعلى الإنسان المنصف الذي يريد أن يحكم على الواقع أن يتجرد من هذه الأحكام المغلوطة ويرجع إلى الأصل المستبين للحضارة العربية والإسلامية والدين الإسلامي. والمشكلة هنا أن تلك الرواسب الخطيرة في الذهنية الغربية، تستند أيضا إلى فعل بعض المسلمين أنفسهم الذين ليس لهم أية دراية بالرسالة الحقيقية للإسلام، فلا واقعهم ولا تصرفاتهم تومئ إلى شيء من الإسلام.
المهم أن ازدراء الأديان جريمة شنيعة وعلى كل المجتمعات أن تتقاسمها مخاوف ترك الباب مفتوحا لكل المزدرين ليعبثوا في معتقدات المومنين كيفما شاءوا... وتقنين هاته الجريمة في قوانين وطنية هو السبيل في نظري لمنع العديد من التجاوزات اللاحضارية التي يقوم بها أناس في حق الديانات والشعوب، تجعل الخاص والعام يفكر في هاته الأسرة الإنسانية والبيت المجتمعي المشترك التي يجب بناؤهما لنا وللأجيال الصاعدة.