أ.د عبدالله بن أحمد الفيفي
(20 - بين شواهد الآثار وغرائب الأحبار!)
تشير النقوش العربيَّة المعينيَّة والسبئيَّة، من جهة، والكتابات المِصْرِيَّة، من جهة أخرى، خلال الألف الأُولى قبل الميلاد، إلى قيام علاقات تجاريَّة بين جنوب الجزيرة العربيَّة و(مِصْر)، لاستيراد بعض الصادرات العربيَّة، كالمُرّ، واللُّبان، والعُطور، والتوابل، والصوف، والشِّياه، والإبل، والأخشاب. وكذا قيام علاقات مصاهرة، أو علاقات دِينيَّة، ولاسيما تلك المتعلِّقة بالمعبودة المِصْريَّة (إيزيس). وقد سُجِّلت هذه المعلومات في نقوش اليَمَن، كما عُثِر على نقشٍ واحدٍ يشير إلى اتِّصالٍ ما بمِصْر في (مملكة كِنْدَة)، وذلك في (قرية الفاو)، جنوب غرب (السُّلَيِّل)، التي تبعد عن (الرِّياض) حوالَي 700كم إلى الجنوب الغربيّ، و150كم إلى الجنوب الشرقيّ من الخَـمَاسِيْن، في المنطقة التي يتداخل فيها (وادي الدواسر) ويتقاطع مع جبال (طُوَيْق)، عند فُوَّهَة مجرَى قناةٍ تسمَّى: الفاو(1). لكن ذلك كلّه إنما يبدو نتيجةً لإيلاف العرب إلى مِصْر متاجرين، لا أكثر من ذلك، ممّا أسرف (كمال الصليبي) في افتراضه. أمَّا حين يَرِد في تلك النقوش مصطلح «م ص ر ن» فإنما كان يشير - حسب المختصِّين في قراءة النقوش اليَمَنيَّة - إلى (دادان، أو العُلا حاليًّا، شَمال غرب السعوديَّة). وكانت مفردة «مِصْر» تُستعمل بمعنى: حَدّ، أو نِطاق، أو إقليم، مذ ذلك التاريخ، كما في الأكديَّة، وهو ما بقي حاملًا الدلالة ذاتها في العربيَّة الفصحى. وأمَّا في النصوص المِصريَّة الهيروغليفيَّة، فظلّت الإشارات إلى الجزيرة العربيَّة نادرة، إلى قرونٍ متأخرةٍ قبل الميلاد، وغير مؤكَّدة، أو عموميَّة الدلالة ومبهمتها. وهذا لا ينمّ على أنها كانت لمِصْر أيّ مستعمرات تاريخيَّة في جنوب جزيرة العرب، فضلًا عن أن تكون بالغة التطوّر وثيقة الاتصال بحضارة وادي (النِّيْل)، من قَبيل ما افترضه الصليبي. بل إن عكس ذلك هو ما تدلّ عليه الوثائق المِصْرِيَّة القديمة، (الديموطيقيَّة واليونانيَّة)، وهو وجود جاليات عربيَّة مستوطنة في مِصْر، كان أفرادها يعملون في العسكريَّة، أو التعليم، أو الزراعة، أو الرعي، ونحوها من الحِرَف. ما ينفي أن استيطان العرب مِصْر ما جاء إلّا بعد الفتح الإسلامي. والعرب معروفون عبر التاريخ بحُبّ الترحُّل والمغامرات في ارتياد الأمصار. ولذلك لا غرابة أن نجد أن المؤرّخين الكلاسيكيين، كالمؤرِّخ الإغريقي الروماني (سترابو Strabo ???????، -24 ب.م)(2)كانوا يُطلِقون على المنطقة الشرقيَّة من مِصْر، الواقعة بين النِّيْل وما كان يسمّيه سترابو «الخليج العربي»- مشيرًا إلى البحر الأحمر- تسمية: «العربيَّة»، أو إقليم العرب؛ لاستيطان العرب في تلك المنطقة؛ ناصِّين على هذا بقولهم، مثلًا:
«The country between the Nile and the Arabian Gulf is Arabia.»
جديرٌ بالإشارة هنا أن الصليبي لم يأت بجديد- في حقيقة الأمر من أصل افتراضاته- وإنما ردَّدَ نظريَّة توراتيَّة أكل الدهر عليها وشرب، ثمَّ انتسخها من اليهود بعض المؤرِّخين العرب. كلّ ما فعله أنه أسرف في تبنِّي تلك النظريَّة واعتقادها ومدِّها وتوسيعها والتماس ما رآه من مؤيِّداتها، ومهما كلَّفه ذلك من تعسُّف. تلك النظريَّة النَّسبيَّة توراتيَّة تذهب إلى أن (سبأ) ليس بـ(سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان)، كما يقول العرب، بل هو (شبأ بن يقشان بن إبراهيم)! ففي (العهد القديم) نقرأ: «وعَادَ إِبْرَاهِيمُ فأَخَذَ زَوْجَةً اسْمُهَا قَطُورَةُ، فوَلَدَتْ لَهُ: زِمْرَانَ، ويَقْشَانَ، ومَدَانَ، ومِدْيَانَ، ويِشْبَاقَ، وشُوحًا. ووَلَدَ يَقْشَانُ: (شَبَا)، ودَدَانَ.»(3) ومن ثَمَّ فإن القبائل اليَمَنيَّة هي من ذلك الأصل الإبراهيمي. وما دامت من أصلٍ إبراهيميٍّ، فهي- حسب المقولات اليهوديَّة والمسيحيَّة- تنتسب إلى عابر؛ فعابر أحد أجداد إبراهيم؛ ولذا يُسمُّون إبراهيم: (ابرام العبراني). وفي مواضع أخرى من التوراة يَرِد قولٌ آخر، هو أن (شبأ) شقيق (حضرموت)، وأنهما ابنا (يقطان بن عابر): «ولِعَابِرَ وُلِدَ ابْنَانِ: اسْمُ الوَاحِدِ فَالَجُ؛ لأَنَّ في أَيَّامِهِ قُسِمَتِ الأَرْضُ. واسْمُ أَخِيهِ: يَقْطَانُ. ويَقْطَانُ وَلَدَ: أَلـمُودَادَ، وشَالَفَ، وحَضَرْمَوْتَ، ويَارَحَ، وهَدُورَامَ، وأُوزَالَ، ودِقْلَةَ، وعُوبَالَ، وأَبِيمَايِلَ، وشَبَا، وأُوفِيرَ، وحَوِيلَةَ، ويُوبَابَ. جَمِيعُ هؤُلاَءِ بَنُو يَقْطَانَ. وكانَ مَسْكَنُهُمْ مِنْ مِيشَا حِينَمَا تَجِيءُ نَحْوَ سَفَارَ جَبَلِ المَـشْرِقِ. هؤُلاَءِ بَنُو سَامٍ حَسَبَ قَبَائِلِهِمْ كأَلْسِنَتِهِمْ بِأَرَاضِيهِمْ حَسَبَ أُمَمِهِمْ». ويقطان هو الذي يسمِّيه العرب (قحطان)، وهو أبو العرب العاربة. وعابر هو: ابن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح، وهو أبو العبرانيَّة. وبذا يبدو أن لا مفرّ من العبرانيَّة(4). فـ»سَامٌ أَبُو كُلِّ بَنِي عَابِرَ»(5).
ثمَّ جاء المؤرِّخون العرب - كنهجهم المعتاد في النقل والتسليم بما أَلْفُوا عليه آباءهم من الرواة وأهل الكتب - فتبنَّوا الرواية الكتابيَّة في هذا النَّسَب، بعجرها وبجرها. بل نقلوا من التوراة نقلًا حرفيًّا في بعض الحالات(6)، ناسبين (قحطان) إلى مَن سُمِّي في التوراة: (عابر)(7)، ذاهبًا بعضهم إلى أن عابرًا هذا هو النبي (هُوْد).(8) ولسنا ندري كيف صار الرجل ذا اسمين؟ وما أولئك - على كلِّ حالٍ- بالمؤرِّخين، بما تعنيه هذه الكلمة من معنى، بل هم أشبه بحاطبي الليل، إنْ استثنينا منهم (ابن خلدون)، في بعض ما كتب. حسبك من شواهد ذلك أن تجد (ابن كثير)(9)- وهو من هو لدى السلف والخلف - يقول مثلًا: «ويُقال: إن هودًا، عليه السلام، أوَّلُ مَن تكلَّم بالعربيَّة. وزعم (وهب بن مُنبِّه) أن أباه أوّل من تكلّم بها. وقال غيره: أوّل مَن تكلم بها نوحٌ. وقيل: آدم. وهو الأشبهُ. وقيل غير ذلك. والله أعلم». فكلّ الأقوال لديه واردة محتمَلة، لكن أشبهها بالصواب: أن آدم أوَّل من تكلَّم بالعربيَّة! وحسبك بهذا شاهدًا على عِلْمِيَّة العقل الذي اشتغل بتاريخنا القديم.
ومن خلال تلك الرواية اليهوديَّة، الدائرة حول أن «سَامًا أَبُو كُلِّ بَنِي عَابِرَ»، جاء احتكار الصهيونيَّة المعاصرة للساميَّة، واتّهام من ينالها بنقدٍ بالعداء للساميَّة. ومن هذا المنطلق جاء مشروع الصليبي، غير مكتفٍ بأُسطورة العِبرانيِّين التاريخيَّة في فلسطين، بل كأنما ذهب ليؤسِّس من خلال أُسطورة أنسابهم تلك أصلًا أُسطوريًّا عِبرانيًّا أشمل، يلتهم الأُمَّة العربيَّة برُمَّتها! قائلًا، وقد آمن بتلك الأنساب التوراتيَّة:
- ما المانع، إذن، من أن نزعم أن (بني إسرائيل) كانوا قبيلة عربيَّة بائدة (أو عِبرانيَّة، لا فرق)؟!
- ونقول: إن المانع هو، أننا - حتى لو سلَّمنا جدلًا بتلك النظريَّة التوراتيَّة الجذور- لن نجد أثرًا لذلك التاريخ التوراتي في جنوب الجزيرة العربيَّة. هذا على الرغم من أن الصليبي لم يستطع إنكار أن (مصر/ مصرايم - موسى)، التي ينسبها إلى (عسير)، كانت ذات حضارة لا تقلّ عن حضارة مِصْر الأفريقيَّة، إن لم تفُقها، ولا أن (داوود) و(سليمان) كان لهما هناك مُلك مُؤثَّل، وتاريخ، وحضارة، وحروب طاحنة، وشأنٌ أيُّما شأن، ظلّ ينسبه زورًا إلى مَواطن لا أثر له فيها البتة، لا من قريب ولا من بعيد.
** ** **
(1) انظر في هذا: الأنصاري، محمَّد الطيِّب، (1979)، أضواء جديدة على دولة كِنْدَة (بحث ضمن كتاب الندوة العالمية الأولى لدراسات تاريخ الجزيرة: مصادر تاريخ الجزيرة العربية، الجزء الأوَّل: ص3- 15)، (الرِّياض: جامعة الرِّياض- الملك سعود حاليًّا)، 16.
(2) See: Strabo, (1967), THE GEOGRAPHY OF STRABO, (v. 8), With an English Translation By: Horace Leonard Jones, (Cambridge, Massachusetts: Harvard University Press- London: William Heinemann LTD), 17, 1, 21, 30.
وانظر: السعيد، سعيد فايز، (2003)، العلاقات الحضاريَّة بين الجزيرة العربيَّة ومِصْر في ضوء النقوش العربيَّة القديمة، (الرياض: مكتبة الملك فهد الوطنيَّة)، 23، 35، 41، 49، 51- 52، 54- 57، 99، 138- 140.
(3) سفر التكوين، الإصحاح 25: 1- 3.
وردَّد ذلك (الطبري، (1967)، تاريخ الرسل والملوك، تحقيق: محمد أبي الفضل إبراهيم (القاهرة: دار المعارف)، 1: 311)، مسمِّيًا أُمَّ هؤلاء: (قنطورا بنت مقطور)، من العرب العاربة. وفي رواية أخرى: (قنطورا بنت يقطان). وكانت له امرأة عربيَّة أخرى، في ما زعموا، اسمها (حجور بنت أرهير).
(4) حول تلقيبهم بالعبرانيِّين آراء مختلفة، منها: أنهم عَبَروا الأنهار من العراق إلى الشام، أو أنهم «عَبْرنهريُّون». و»عبر نهر»: مصطلحٌ جغرافيُّ، كان يشير إلى البلاد الواقعة غرب الفرات، ولاسيما سوريا وفلسطين. ففي الأكديَّة: «إبرناري»، وفي العهد القديم: «عِبَرْهَنَّاهار»، وفي الآراميَّة: «ع ب ر ن هـ ر أ»، وفي المعينيَّة: «ع ب ر ن هـ ر ن». (انظر: السعيد، 44). أو لأنهم عَبَروا البحر مع موسى. لكن أوضح الأسباب وراء ذلك اللقب ما سجّلته التوراة من انتسابهم إلى (عابر).
(5) سفر التكوين، الإصحاح 10: 21.
(6) يظهر النسخ من التوراة مثلًا في نصّ (الطبري، م.ن، 1: 205): «ووُلد لعابر ابنان: أحدهما فالغ [كذا!]، ومعناه بالعربيَّة: قاسم؛ وإنما سمّي بذلك لأن الأرض قُسِمَت والألسن تبلبلت فِي أيَّامه. وسمَّى الآخر: قحطان. فوُلد لقحطان: يعرب ويقطان ابنا قحطان بن عابر بن شالخ، فنزلا اليَمَن...». فقارنه بنص العهد القديم أعلاه، تجده ينظر إليه وينقل عنه. وهو - على كلّ حال - يعترف أن مصدره التوراة، وأنه ينسخ عنها. (انظر: 1: 210).
(7) انظر: الطبري، م.ن، 1: 211.
(8) انظر: ابن كثير، (1998)، البداية والنهاية، تحقيق: عبدالله بن عبدالمحسن التركي (القاهرة: دار هجر)، 1: 282.
(9) م.ن، 1: 283.