د. جاسر الحربش
المفترض في أي مجتمع، دولة، أمة، تتعرض لظرف يهدد أمنها وهويتها وتماسكها الداخلي، أن تستقطب جميع مكونات القوة فيها وتؤجل خلافاتها الفئوية، لصد التهديد الخارجي ثم تدميره. من هنا يصبح المتوقع أن تلتحم كل مقومات المجتمع، الدولة، الأمة أثناء التحديات الكبرى لتنصهر في مكون واحد تحت قيادة واحدة لتنفيذ خطة دفاعية وهجومية واحدة .
كل مجتمع، قديم أو جديد يتكون من عدة أطياف، فئات، عنصريات، مجموعات، تكتلات، تتصارع سلميا ً فيما بينها لاقتطاع النصيب المستحق أو غير المستحق من الناتج الاجتماعي . قد يصل التنافس بين المكونات الاجتماعية المختلفة أحياناً، بل وكثيراً، إلى درجات غير صحية من عدم الانسجام والكيد المتبادل، والسبب الجوهري في ذلك هو الإحساس بانعدام العدالة الاجتماعية. عندما يتعمق هذا التنافس ويصل إلى الانكفاء داخل المكون الخاص (عقلية الجيتو) والتخندق المضاد، عندئذ تصبح التربة الاجتماعية في منتهى الخصوبة لنوعين من البذور، بذور التحريض والاعتداء على المكون الاجتماعي الداخلي المختلف، وكذلك بذور التفتت المؤدي إلى المزيد من الضعف ثم إلى الهزيمة أمام التهديد من الخارج.
من هذه البذور السامة تنشأ المنظمات الإرهابية الانتقائية الإقصائية . المنظمات الإرهابية لا تنشأ أبدا ً من شعور بالثقة والتفوق . العكس صحيح وبتعميم يشمل الأفراد والمجتمعات والدول . التلميذ أو الطالب رئيس المشاغبين في الفصل الدراسي لا يمكن أن يكون تلميذا ً أو طالباً ً نبيها ً وناجحا ً، والمتوقع أنه من أفشل وأغبى زملائه . هذا الفاشل هو الذي يكون في المدرسة عصابة من أمثاله الفاشلين، لضرب الزملاء الناجحين والاستيلاء على مصروفهم اليومي وإسقاط هيبة المدرسة وتكسير سيارات المدير والمدرسين . هذا الفاشل يتحول فيما بعد إلى رئيس عصابة مخدرات ومصدر إزعاج للأمن العام وسرقات البيوت والممتلكات . من هنا ينبت الإرهاب الاجتماعي، قبل العقائدي والمذهبي والسياسي، أي من تربة الفشل التربوي في المنزل والمدرسة وتدني هيبة النظام التربوي والتعليمي .
بهذه الآلية وفي فترات الضعف من تاريخ أي مجتمع، دولة، أمة، تلعب شخصية المحرض الخطيب الناري المفوه دورا ً مدمرا ً، دورا ً قياديا ً غير مستحق، ليس في ميادين القتال الفعلي وإنما في الوسط الاجتماعي، وبالذات في الوسط الاجتماعي الانتمائي الخاص . المحرض الاجتماعي بهذه المواصفات لا يمكن أن يكون شخصية سوية وناجحة منذ تكوينه الأول أثناء الطفولة، ولا يمكن أن يتحول إلى شخصية قيادية إلا في مجتمع متخلف وخائف من الاجتياح الخارجي . لا يمكن أن تكون شخصية المحرض الاجتماعي الفئوي إلا شخصية انتقائية إقصائية استباحية ومفككة للنسيج العام المتعايش قبل الشعور بالتهديد الخارجي.
هكذا نشأ الإرهاب المذهبي المحسوب على السنّة والإرهاب المذهبي المحسوب على الشيعة، من شخصيات مأزومة نفسيا ً وكانت عديمة الثقة بنفسها وفاشلة في نشأتها الأولى . المصيبة تتلخص في أن هذه الشخصية بما تتسبب فيه من إرهاب وتفكيك للنسيج الداخلي تقدم أفضل الخدمات للعدو الخارجي، من حيث تعلم أو لا تعلم.