د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
وقَّعت الدول الغربية وعلى رأسها أمريكا اتفاقاً نووياً مع إيران يرفع كافة العقوبات عنها في وقت توقَّع جميع حلفائها المخلصين تشديدها. وانطلق توقيع الاتفاق من نظرة مصلحية ضيقة وأنانية مفرطة تبيِّن أن الاعتماد على الحلفاء أمر غير مأمون العواقب. ولكن يتوجب على الإِنسان أحيانا أن ينظر للعالم ويتعامل معه كما هو لا كما يريده أن يكون.
بعد توقيع الاتفاق النووي الغربي الإيراني توقع البعض أن ينشط أوباما كعادته في مكالماته الهاتفية التطمينية لقادة الأنظمة العربية، ليقدم لهم الكثير من الوعود والكلام المعسول الذي يتوقع أن ينسوه أو يتغير بتغير إدراكهم للواقع الفعلي من حولهم كما كانت وعوده السابقة حول الضغط لإنهاء العنف الطائفي في العراق، أو التخلص من نظام بشار الأسد ودعم قوى الثورة السورية وإلى آخر ذلك من الوعود التي لم يكلف نفسه حتى مشقة التطرق لها فيما بعد.
بدأ أوباما أول أيَّام رئاسته الأولى بخطاب في القاهرة من منبر سني، ووعد بتقارب مع الأمة الإسلامية وطي صفحة الماضي، لكنه أنهى رئاسته باتفاق تاريخي وربما زيارة مرتقبة لطهران فيما بعد، أما موقف العرب فهو كالعادة الدهشة والاحتجاج اللفظي ثم التكيف مع الواقع الجديد. فأوباما فعليا قدَّم الكلام المعسول للعرب والعسل الحقيقي لإيران.
المراقبون الذي تابعوا سير المحادثات وتأجيلها مرة بعد أخرى أشهراً ثم أسابيع ثم أيَّاماً قفزًا على خطوط حمراء كثيرة حددت سابقاً أدركوا الرغبة الملحة من كلا الطرفين في الوصول لأي اتفاق، حتى ولو كان مبهماً ومصوغاً بعبارات مفتوحة النهايات مثل «حسب اتفاق الطرفين»، أو «عندما يقدم طرف ما يقنع الطرف الآخر، أو «بمشاركة الطرفين» وإلى آخر ذلك من العبارات القانونية المطاطية. فالمهم على ما يبدو ليس الاتفاق ذاته والأهم هو ما سيبنى عليه في الفضاء الدبلوماسي والاقتصادي الكامن خلفه. فالاتفاق ليس إلا مبرراً للطرفين لإقناع شعوبهم بنصر مزعوم. ومن أهم صفات الاتفاقات الغامضة هو التمكين لجميع أطرافها بادعاء الانتصار. فاللعاب الرأسمالي الذي يقطر من أفواه الأطراف الغربية المشاركة في المحادثات خلق لديها التوق ذاته الذي لدى إيران لرفع العقوبات. والاتفاق في بعض جوانبه اتفاق تطوير وتحديث وإعادة بناء لمشروعات الطاقة النووية الإيرانية بمشاركة غربية لا عرقلتها، ويتضمن السماح لإيران بمواصلة أبحاثها النووية وفتح مجال التعاون التقني معها في هذا المجال. كما أنه يقضي بإزالة كافة العقوبات الاقتصادية سواء الدولية منها التي فرضها مجلس الأمن أو العقوبات الثنائية التي فرضتها الدول والشركات والمؤسسات، وكذلك الإفراج عن جميع الأموال الإيرانية بل ويشمل ذلك الأسلحة وقطع الغيار. ومقارنة لاتفاق كهذا بما طُبِّق على العراق في التسعينات من دمار وحصار شامل ثم احتلال عقوبة له على التجرؤ بالبدء في برنامج نووي توضح لنا المعايير المزدوجة للغرب في التعامل مع العرب وغيرهم. فالغرب ببساطة لديه كراهية مفرطة للعرب يعادله فقط حبه لأموالهم التي تأتيه سهلة ويخالها مضمونة في كافة الأحوال، بينما تتصرف إيران كالحبيبة المتمنعة عليه.
وما دمنا بصدد الحب فأفضل وصف قرأته عن علاقة إيران بالغرب هي وصفها بعلاقة المحبوبة مع عشيقها العنيف الذي يعاملها أحيانا بعنف لكنه لا يرغب في إيذائها، فهي تصرح بكراهيته علناً ولكنها مسكونة بالرغبة للعودة إليه سرًا ولا تستطيع التخلي أو الاستغناء عنه. فالعلاقات بين إيران والغرب وأمريكا لم تنقطع قط حتى في أحلك أوقاتها، فإيران كانت على اتصال بحزب الجمهوريين أيَّام احتلال السفارة الأمريكية وأخذ دبلوماسييها رهائن في عهد الخميني في نوفمبر 1979م، وأفرج عن الرهائن فقط بعد الانتخابات الرئاسية مما سمح بهزيمة كارتر وتولي ريجان. وباعت حكومة ريجان الأسلحة سراً لإيران فيما عُرف بـ»إيران جيت» أو فضيحة الكونترا عام 1987م، وقد أبدى جميع رؤساء إيران رغبة لزيارة أمريكا وطلبوا ذلك رسمياً، وزارها خاتمي في 1997م وألقى خطبة أشاد فيها بالتاريخ الأمريكي. وبعد 11 سبتمبر طلب جميع رؤساء إيران بمن فيهم نجاد زيارة موقع برجي التجارة العالميين الذين شكّل تدمرهما علامة فارقة في العلاقات السنية الأمريكية، بسبب جهل وتهور القاعدة المحسوبة على الإسلام السني. ويقال: إن نجاد توقف عن مهاجمة أمريكا في خطبه ليساعد أوباما في انتخاباته الأولى. فأمريكا بعبارة أخرى مارست نوعاً من التقية مع العرب، تصادقهم علناً وتهادن عدوهم سراً، والسبب في ذلك المصالح الاقتصادية الضخمة التي تربطها بهم، فهم أصدقاء الرخاء والمصالح فقط.
وبعد تقليل الاعتماد على النفط الخليجي، وتمدد إيران في نصف العالم العربي تغيرت كثير من معادلات المنطقة، فقلت أهمية النفط، واقتنع الغرب بأن هناك مصالح كبرى في إعادة بناء العراق وسوريا اللذين يخضعان لنفوذ إيران، كما أن الوقت مواتٍ لفتح السوق الإيراني وكذلك دخول النفط الإيراني للأسواق، ولاسيما أن العرب في حالة تراجع وتفكك وتشرذم. ثم إن الجانب الإيراني قدم للغرب عقوداً مغرية سواء اقتصادية أو جيو - سياسية بالمشاركة في تسوية مشاكل المنطقة. والغرب بدا مقتنعاً بأن إيران مصدر مشاكل المنطقة والأقدر على حلها أو تعقيدها بشكل أكبر مستقبلاً.
أما بالنسبة لأوباما فهو تواق كأول رئيس غير أبيض لأمريكا لتحقيق أي انتصارات ممكنة قبل مغادرته، فقد راهن كثير من العنصريين البيض على فشله كرئيس أسود، ولذا فهو اتبع سياسة حذرة لأبعد الحدود كي لا يبدوا كرئيس مختلف عن سابقيه، لأن ذلك سيفتح الطريق مستقبلاً لمزيد من الرؤساء السود للوصول للرئاسة في أمريكا إذا ما اطمأن الشعب لذلك. واتبع سياسات داخلية وخارجية أشبه بالسير على حبل مشدود، بل إن البعض وصمه بالجبن مقارنة بسلفه، فهو حذر جداً من الدخول في أي صراع عسكري خارجي كي لا ينقلب وبالاً عليه، ومارس الركض الماراثوني للوصول لهذا الاتفاق نتيجة للضغوط الصهيونية عليه لعمل شيء ما حيال هذا الملف، بما في ذلك ضغوط من نتنياهو شخصياً وحكومة الليكود. فحل مشروع إيران النووي عسكرياً غير محمود العواقب، ولاسيما مع وقوف روسيا والصين خلف إيران، والرغبة المتأصلة لدى الدول الأوروبيَّة باستثناء بريطانيا لتجنب أي حروب في المنطقة والعالم لتأثيرها البشري والبيئي على العالم، وانعكاس ذلك على زيادة أعداد المهاجرين لها، والقضية الأخيرة أصبحت قضية رأي عام كبرى في أوروبا انعكست في صعودٍ متنام لأحزاب اليمين المتطرف. كما يجب ألا ننسى أن الاختراقات التي حققتها الصين في أفريقيا بتوقيع معاهدات مع دول فيها تسرى مدتها لمئة عام، شكلت هاجساً لأمريكا والغرب من أن تقدم الدول المسلمة الشيعية على أمور مماثلة. ومن ذلك أيضاً قطع الطريق على تقارب إيراني روسي وثيق.
أما بالنسبة لإيران ذاتها فلا شك أن الاتفاق جدد ثقتها بنفسها وفي حال رفع العقوبات سيساعد ذلك على تحسن الوضع الاقتصادي الداخلي وتخفيف الاحتقان السكاني الذي وصل حد الغليان في بعض المناطق. وقد وجدت حديثا كتابًا صدر من دار نشر اكسفورد بعنوان «اللغات الإيرانية»، ولفت نظري أنه ضم مجموعة كبيرة من اللغات تشمل جميع لغات وسط آسيا بما في ذلك اللغة الكردية، واللغة البلوشية على اعتبارها لغات إيرانية، وتشكل اللغة الفارسية لغة واحدة منها، وتشمل منطقة اللغات مناطق واسعة تغطي معظم آسيا الوسطى وأجزاء كبيرة من جنوب تركيا ومناطق في الخليج العربي، مما يمنحنا فكرة عن الطموح الإيراني القادم لامتداد نفوذها، وهي منطقة تتجاوز العالم العربي بكثير، وستحتاج إيران لكثير من المال لتحقيق هوسها المتجدد بالتوسع.
كما سيتم تعويض إسرائيل بأحدث ترسانة أسلحة أمريكية، أما بالنسبة للعرب والخليج على وجه الخصوص فستقدم لها عقود أسلحة أقل نوعية وبثمن باهظ. وعلينا أن نتذكر أن هناك دولاً خليجية لعبت دوراً في تمهيد الاتفاق، وهناك دول عربية باركته وهو ما يعكس وللأسف حال أمتنا، إلا أن هناك مساحة للتفاؤل بأن يأتي الفرج من قلب الأزمة، وإن غداً لناظره قريب.