أ. د. فالح العجمي
ربما لم يُكتب كثيراً في الثقافة العربية عن الحروب، إلا عندما يتعلق الأمر بالسرد التاريخي لبعض المعارك في المنطقة العربية والإسلامية، أو ربما في مناطق جغرافية أخرى. لكن الحروب جزء من ثقافة الإنسان، وتطور وعيه في التعامل مع البيئة المحيطة به أو المجاورة، وتغيير سلوكه العدواني نحو مزيد منه اتجاه الآخرين من بني جنسه أو نحو تهذيب ذلك السلوك.
وبما أن الثقافة العربية القديمة تعتمد في الحكمة وبناء الخلفيات الفلسفية على الشعر، فإن أغلب ما دونه العرب آنذاك كان في شعر الحكماء منهم، الذين تناولوا شأن الحرب تحليلاً لها أو تحذيراً منها. ومن ذلك ما روي عن زهير بن أبي سلمى الذي كان يتألم من سهولة وقوع قيادات قومه في فخ الانجرار إلى الحرب في معلقته الشهيرة، التي منها ذلك البيت الصارخ: «وما الحرب إلا ما علمتم وذقتمُ وما هو عنها بالحديث المرجّم».
وهذا يدل على أن العرب قديماً لم يكونوا جميعاً موافقين على المغامرات التي كان يقع فيها بعض المتسرعين منهم، أو أصحاب الثأر غير المتعقلين، حيث تزهق آلاف الأنفس، قبل أن يعودوا إلى رشدهم، ويتوقفوا عن الاستمرار فيها، دون تحقيق أي طائل من تلك الحروب.
وبالطبع كان العالم القديم يعتمد في اقتصاده على التوسع من جهة، لكسب مناطق نفوذ جغرافية جديدة، فيها بعض المكاسب الاقتصادية، أو لخلق فرص في الوصول إلى بعض المصادر الطبيعية للرزق، كالأنهار والمناطق الخصبة الصالحة للزراعة. لكن تلك العوامل لم تكن هي وحدها المؤدية إلى الحروب الكبرى على وجه الخصوص؛ فقد كانت الأديان والدفاع الموهوم عنها، وجنون بعض القادة الذين تتوفر لديهم مصادر القوة، حيث يغضبون أن ينازعهم أحد، من المسببات القوية لشن عدد من الحروب المهلكة في تاريخ البشرية. فقد كانت مناطق واسعة من آسيا وأوربا وشمال إفريقيا على وجه الخصوص مجالاً لشن حروب غيرت خريطة الوجود البشري في كثير من مناطق تلك القارات، وربما لم يدون التاريخ كل تلك الحروب، لكن المناطق المحيطة بالرافدين شرقاً وغرباً وشمالاً كانت مداراً لبعض المغامرات الكبرى؛ ودونت الكتابات السومرية ما يتعلق بما قاموا به، إذ كانوا أول من عرف الكتابة، ثم دوّن الأكاديون والآشوريون والبابليون أيضاً بعض الملاحم المتعلقة بفلسفتهم في هذا الشأن. ثم كانت بالطبع حروب اليونانيين (خاصة الاجتياح الهيلنيستي الذي عُرف باسم قائده الذي مات في تلك الحرب: الاسكندر المقدوني، أو الاسكندر الأكبر)، وتلتها أيضاً حروب الرومان في كثير من مناطق نفوذهم، وصراعهم المستمر مع الدولة الفارسية.
بالطبع لم تهدأ الحروب أبداً في تاريخ البشر، لكن الجولات الكبرى منها كانت في الفتوحات الإسلامية، وما تلاها في دول تلك الفتوحات باتجاهات مختلفة، وبين الأتراك والأوربيين من جهة أخرى، واختتم الصراع بين الطرفين في الحرب العالمية الأولى والتي تسببت أيضاً في اندلاع الحرب العالمية الثانية، نتيجة لظروف انتهاء الأولى، ووجود قوى الاستبداد، التي كانت تطمع في الحصول على كل شيء. ثم استقرت الأمور في العقود السبعة الماضية، عدا عن الحروب ذات الموضع الواحد، وذلك بسبب أن الحروب لم تعد قائمة من خلال الأسلحة فحسب، بل أصبحت تدار بطرق متعددة؛ منها الاقتصادية والسياسية والثقافية والتكنولوجية. فهل يعقل البشر بعد كل هذه المهالك، والتبريرات الهزيلة لانطلاق الحروب؟ أم يبقى الإنسان أسير غبائه، ويسعى خلف مطامع وقتية، لا تغني أبداً في ميزان حساب الفوائد والخسائر؟ فالحروب لمن يتصفح التاريخ يعرف أن لها نتائج مفزعة مرئية، وأخرى أكثر رعباً لكنها غير مرئية.