د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
تصرفات الأفراد في الخارج عندما يتحللون من ضغوط مجتمعهم تظهرهم على طبيعتهم و لذا يكون السفر مناسبة جيدة للتمعن في العقل الباطني للمجتمع كما يعكسه أفراده خارج القيود التي تقيده في الداخل. وما يلي اجتهاد شخصي لفهم بعض الظواهر التي يعكسها أفراد مجتمعنا في الخارج.
... وما يلي اجتهاد شخصي لفهم بعض الظواهر التي يعكسها أفراد مجتمعنا في الخارج. والهدف هو طرح التساؤلات أكثر من البحث عن إجابات لاستجلاء ما يمر به مجتمعنا من تجاذبات بين رغباته الدفينة وتصرفاته العلنية المتاحة له، فبعض التصرف السلوكي يبوح بما يدور في عقل الفرد الباطني أكثر مما يصرح به السلوك اللفظي.
ملاحظات عابرة تساق كأمثلة فقط على تصرفات البعض «الكثير» منا عندما يكون خارج الحدود حتى ولو في دول مجاورة ومشابهة لنا اجتماعيًا كدول الخليج التي لا يحتاج المرء لوصف حالات النفور الجماعي المخجل لها من قطاع كبير من المجتمع خلال الإجازات حتى ولو كانت إجازات عابرة وقصيرة حتى أصبحت الاختناقات المروية على المعابر الحدودية محل تندر للقاصي والداني. فظاهرة النفير هذه تستحق التوقف والدراسة لأنها أحيانا تكون لبلدان لا تختلف كثيراً في مقوماتها السياحية إلا في بعض الحريات البسيطة، وفي كون البعض يعتقد أنها تمنحه شعورا بالتواجد خارج دائرة ضغوط مجتمعنا. فالصراع بين رغبات الأنا الدنيا للأفراد والأنا العليا للمجتمع يأخذ شكلاً حاداً وقاسياً في مجتمعنا.
تشد المرء ملاحظة طغيان الجانب المظهري على السلوك للأفراد في الخارج: كالإفراط في اللبس والتبرج؛ التبضع الاستعراضي لما يسمى بالماركات التجارية؛ الطلبات الزائدة عن الحاجة في المطاعم والنوادي الفاخرة؛ شراء واستئجار المركبات الفارهة للاستعراض فقط؛ استئجار مساحات تفوق الحاجة في فنادق وشقق مرتفعة الثمن، وغير ذلك من أمور لا مجال لذكرها. ويقابل ذلك زهد كبير في الاقبال على المجالات التثقيفية كزيارة المعالم والمتاحف والمعارض والتظاهرات الثقافية التي تعد الهدف السياحي الأول للسواح من شعوب العالم الأخرى. وهذا يعكس أولويات الحاجات الاجتماعية التي ينقلها السائح من مجتمعه للمجتمعات التي يزورها، وحالة الجوع التي يعانيها والإشباع الذي يبحث عنه، وهي تحتد لدى الأجيال الحديثة نسبياً أكثر من سابقتها، أجيال ما سمي بالطفرات المالية حيث المال الكثير والحاجات والرغبات المتوسعة التي جلبها هذا المال ولا يقدم المجتمع ما يمكن من اشباعها في الداخل. ويمكن أيضاً ذكر أن الشخص الفوضوي في الداخلي يصبح أكثر انتظاماً في الخارج، وأنه رغم اختلاط الجنسين تقل حالات التحرش، أو على الأقل حالات التحرش البذيء الذي يحدث أحياناً لدينا.
فالفجوة بين الرغبات الاجتماعية الجامحة وغياب الاشباع الاجتماعي لها آخذة في الاتساع، وكذلك الفجوة بين الأجيال، وبين الالتزام الصارم في الداخل والانفراط غير المقيد في الخارج. ففي إحدى السفرات لمدينة كبيرة في أمريكا لاحظ الكاتب فتاة سعودية متأنقة بشكل ملفت جداً وقد وضعت على جسدها كل ما غلى ثمنه ولفت نظره في السوق، تتبختر كمعرض متنقل للماركات الباهظة الثمن في محاولة دؤوبة للابتعاد بمسافة كافية عن والدتها المسنة المحجبة ذات اللبس البسيط الطبيعي التي كانت على ما يبدو تسير معها خوفاً عليها. وبعد عامٍ ولمحض الصدفة وفي جادة قريبة لاحظ الكاتب الفتاة ذاتها مرة أخرى وهي تكلم والدتها من مسافة بعيدة وتسألها بصوت مرتفع نوعاً ما هل بإمكانها متابعة السير أم لا؟ بينما كانت السيدة الكبيرة تجاهد وتكاد تقع من الإعياء للحاق بابنتها التي لا تلتفت للوراء. وعندما لاحظت الفتاة أنه لا مفر من العودة لتدارك الوالدة أخرجت الآيباد وتظاهرت أمام المارة بأخذ صورة سيلفي معها وكأنما هي ظاهرة سياحية نادرة حتى لا تلفت نظر المارة غير الآبهين أصلاً بالفتاة و والدتها، ولكن الحساسية الاجتماعية المفرطة للفتاة جعلتها تعتقد أن أنظار العالم كلها تنصب عليها!!
وتكرر المشهد مع شابين كانا ملفتين للنظر في أحد الشوارع الرئيسة لمدينة كبيرة جداً حيث كانا يعتمران قصات شعر مفرطة في التأنث حتى في عرف المجتمع الغربي، شعر طويل على الاكتاف تتوسطه كعكة مربوطة بعناية، وتحتهما قمصان مفتوحة الجوانب وغير ساترة طبعاً، وشورتات قصيرة جداً، ويسير خلفهما شيخ وقور يجاهد المشي بالبنطال والقميص، وامرأة مسنة تلبس كاباً ثقيلاً في عز الحر وتربط خمارها بشريطة على رأسها وتذكر بالنساء الآسيويات في مواسم الحج. وبينما كان الشابان يجهدان في ابقاء مسافات بينهما وبين والديهما كانا يتصرفان بين فترة وأخرى وكأنهما أدلاء سياحيين لسواح غرباء: يفرطان بالشرح لينسيا اللحظات العصيبة التي هم بها، وكانا يبتسمان بإفراط لبعض المارة فيما يشبه الاعتذار، بينما المارة لا يأبهون بهما ويستغربون من مظهرهما أكثر من مظهر والديهما، فلبس الوالد والوالدة له ما يبرره أما مظهر الأبناء فينم عن عقدة نقص واضحة.
مثل هذه المشاهد تتكرر كثيراً من رجال أيضاً يعتمرون آخر صيحات الموضة من القمصان والكابات والشورتات ويسيرون أمام زوجاتهم اللائي يلبسن عبايات على الرأس ويتنقبن في عز قسوة الطقس ولكنهن في الوقت ذاته يصررن بيأس على ابراز معرفتهن بالتطور والموضة عبر أحذية وشنط من أغلى الماركات تتدلى حول العباءات. فكلا الزوجين يبرز فهمه لما يدور في عالم الموضة بطريقته. ومن الغريب أن من يبرز الانغلاق والتنطع في الداخل قد يرى عذراً في التصرف بشكل مغاير في الخارج مما يجعل تصرفه يبدو متناقضاً أحياناً، ولكنه في عمقه منسجم تماماً، فتصرفه في كلتي الحالتين واحد، وهو محاولة البروز والانسجام التام مع قيم المجتمع الذي هو موجود فيه، فإذا كان المجتمع يؤكد فضيلة الصلاة صلى، وإذا كان المجتمع يتيح الغناء غنى. فاتساع الفجوة بين الرغبات الاجتماعية لشعب ما وعدم القدرة على مواءمة هذه الرغبات مع الأعراف والقيم الاجتماعية السائدة يبرز مثل الظواهر والسلوكيات الآنفة الذكر ويساعد على تفشي الضغوط النفسية التي تسبب ظواهر أخرى كالكرم المفرط، التفحيط، عدم احترام الأنظمة إلى آخر ذلك من السلوكيات المستغربة.
وهذا أمر كوني عرفه حتى جيل الصحابة من قبلنا، وكما قال الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «لا تؤدبوا ابناءكم على أخلاقكم فإنهم خلقوا لزمان غير زمانكم». وشباب وشابات اليوم ظهروا تحت ضغوط اجتماعية كبيرة خلقها التغير الاجتماعي السريع، و الإعلام المعولم القوي، وعالم الموضة (موضات السلوك والمظهر) ومؤسساته الاستهلاكية العابرة للقارات، وهي ضغوط قوية جداً ويجب عدم الاستهانة بها. وهم يجدون صعوبة بالغة في مواءمتها مع القيود الاجتماعية الصارمة التي تؤكد على ضرورة الالتزام بأخلاق الآباء، بل وتخلق للشباب صوراً طهرانية كاملة ومختزلة عن مجتمع الصحابة ليقتدوا بها. فالفتاة التي تلبس آخر صيحات الموضة وتصطحب أمها في السوق تحاول أن توائم بين عالمين متناقضين داخلها: عالم الموضة وعالم التقاليد الذي يفرض البر بالوالدين وهذا ما تعبر عنه المسافة بينهما. وهو الشيء ذاته الذي ينطق به حذاء وحقيبة المرأة المنقبة، وإلا فما الحاجة لذلك ما دام من حولها لا يراها ولا يرى وجهها؟ فالقضية هي صراع داخلي لا مظهر خارجي فقط. وهذا ما تبرزه ظاهرة أخرى وهي المبالغة في التبرج والبذخ لبعض النساء في حفلات الزفاف حيث تتبرج فيها النساء بشكل مبالغ فيه ويلبسن آخر صيحات الموضة وهن أمام نساء فقط!
محاولة انكار تأثر الشباب والمجتمع ككل بما يدور حوله في العالم غير واقعية، و كذلك صرامة المجتمع في عدم تقبل تطور بعض الأمور الاجتماعية الشكلية. فمحاولة دفع الشباب للعيش في مجتمع طهراني متخيل أمر ممتاز نظرياً لكنه ليس واقعياً عملياً، والتشدد فيه قد يدفع الشباب لإنكار أحد الواقعين والتطرف في أي من الاتجاهين بقدر اتساع الفجوة بين المثل العليا والواقع المعاش. والقول بفسطاطين لا توسط بينهما منطق غير واقعي يقود لسلوكيات غير سوية، وإنكار التطور يقود للتطرف الفكري والسلوكي.