د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
الوعي للإنسان بمثابة الرادار للطائرة أو السفينة فهو من يوجه تصرفاته. ولذا فتوجيهه باتجاه أو آخر كان وما يزال الشغل الشاغل للبشرية. وقد اتفق العلماء والخبراء من زمن بعيد بأن أساس الوعي يكون في اللغة التي تحتضن محتواه وبأن مصدرها المجتمع من حوله.
وبعد تطور دراسات علم النفس الاجتماعي ودراسات الإعلام تم تطوير وسائل وأساليب لهندسة هذا المحتوى عبر محتوى لغوي يتم دفنه وتعزيزه فيه دونما علاقة بالعالم الواقعي، عالم افتراضي لغوي سبق العالم الافتراضي الحاسوبي. فنحن نتداول أحياناً مصطلحات دارجة ونركن في قرار أنفسنا إلى أننا نفهمها فهماً قطعياً ولكننا في الحقيقة لا نعيها ولم نحاول قط أن نكتنه عمقها ونسبر غورها. ويضع علماء اللغة والتواصل في أول قائمة خصائص اللغة البشرية خواصاً مثل: الغموض، الخداع، والقدرة على الكذب. فالحاسوب لا يستطيع أن يكذب أو يخدع لأن لغته تخضع لمنطق رياضي له معنى واحد. والأحرى أن الكائنات الأخرى لا تعرف الكذب رغم أننا لا نعرف لغتها، والطبيعة لا تكذب فهي تعيد الظواهر كما هي كلما توفرت المعطيات ذاتها. وقد استثمر خبراء الإعلام والسياسة هذه الخصائص اللغوية مبكراً واستثمروها جيداً في الدعايات الإيديولجية وإعداد الجماهير للحروب.
فقبيل الحرب العالمية الأولى كانت أمريكا في عهد إيزنهاور كلها ضد التدخل في الحرب، وكان الإعلام يذيع أغاني تطالب الأمهات الأمريكيات بمنع أبنائهن من الذهاب لأوربا للمشاركة في الحرب، وأن أمريكا لا مصالح لها في الحروب الأوربية. وكانت غالبية الشعب تتعاطف مع الألمان. وفجأة تغير الموقف الأمريكي فاستقدم إيزنهاور «إدوارد بيرنيس» وهو يهودي نمساوي خبير في الإعلام وفي نفسية الجماهير، فاتفقوا على إنشاء «لجنة الإعلام القومية» وتكفلت هذه اللجنة بتغيير اتجاه الرأي العام لاتجاه معاكس تماماً أساسه التركيز على دعاية واحدة فقط، وهي أن أمريكا لا تريد خوض حروب لمصالحها ولكنها لا بد من أن تتدخل لإنقاذ الشعوب الأخرى من الظلم الواقع عليها، ولنشر الحرية والديمقراطية، فاصطف الشعب خلف الرئيس. وتعد هذه أول لجنة علاقات عامة في التاريخ واعتبر بيرنيس رائداً للعلاقات العامة. ولازالت أمريكا حتى اليوم تردد دعايات مشابهة.
وكان بيرنيس وغيره من خبراء الإعلام الجماهيري والعلاقات العامة يعتقدون أن التلاعب بعقلية الجماهير وعاداتها ضرورة من ضروريات الديمقراطية التي لا تقوم مبادئها على الإجبار (القوة الخشنة) بل على الإقناع والإغواء أي «القوة الناعمة». وقد أطلق بيرنيس اسم «الحكومة الخفية على الجهاز الذي يتلاعب بعقول الجماهير. فسطوة الإعلام في الحفاظ على تماسك المجتمع تفوق كثيراً سطوة السلاح، وهذا ما يفسر استقرار الدول الديمقراطية أكثر من غيرها. ولكن الأعداء الحقيقيين لمالكي الأجهزة الدعائية والإيديولجية هم علماء اللغة والمنطق الذين يبينون زيف لغة الشعارات ويعمقون القدرة على التحليل لدى الجماهير كما يفعل تشومسكي وغيره اليوم. فاللغة سلاح المؤدلج الأولى، وضحاياه الأول السذج ممن يعتقدون بتطابق اللغة مع الواقع، ويطلق عليهم عادة الدهماء. ومن هذا المنطلق هاجم الماديون الماركسيون الإيديولجيات غير المادية واعتبروها تضليل للشعوب قبل أن يكتشف بعضهم أن لها قوة مادية.
ويرى فلاسفة اللغة أن هناك تراكماً للخبرة التاريخية الزائفة لدى العامة أفسد لغتهم، وأن كثيراً من حروب العالم الدينية والعنصرية والاستعمارية بنيت على وعي زائف مصدره لغة ومصطلحات مضللة. فطالبوا بإصلاح اللغة ووضع معايير منطقية للتحقق من مصداقية تطابقها مع العالم الخارجي والواقع حتى لا يخوض العالم حروباً مدمرة بسبب أكاذيب شائعة أخذها العامة على أنها حقائق منزلة. فالكنيسة كانت تحرق الناس بسبب تلبس الشيطان لهم مع أن أحداً لم ير بعينه ولم يتأكد من أن شيطان دخل في امرأة. واختلاف الكنائس وحروبها المذهبية كان حول تفسير كلمة «الثالوث المقدس». ولم يكلف برنيس ولا أمريكا، مثلاً، أنفسهم بوضع تعريف دقيق للحرية التي ذهبوا ليدافعوا عنها، وليس هناك مرجع واحد تعود عليه كلمة ديمقراطية، حتى عبارات مثل حقوق الإنسان اختلف العالم حول تفسيرها، وعندما وضع ميثاق لها في الأمم المتحدة في 10 ديسمبر 1948م بعيد الحرب الثانية اختلفت الدول حول تفسيره.
وكثير مما تعانيه منطقتنا اليوم لا يخرج عن هذا النطاق، وسببه الأول تخلفنا الفكري. فالوعي العربي تتنازعه الدعايات الإعلامية القوية والمصطلحات اللغوية التي ليس لها دلالة واضحة ولا مرجعية يمكن التحقق منها ويتقاتل حولها العوام وكأنما هي حقائق مطلقة. فعبارات مثل تكفيري، ضال، منحرف، خارجي، داعشي، نصريري، رافضي، جيش حر وغيرها جميعها، أوصاف غير دقيقة مرجعيتها الحقيقية هي «عرب يقتلون بعضهم البعض الآخر لأسباب غير موضوعية». فعندما يطلق أحدهم وصف تكفيري على شخص آخر فهو يقصد أنه يخرجه من جادة الدين القويم، وهو لا يعلم أنه بفعله هذا يقع في ما يحرمه وهو التكفير. وللمعلومية فمصطلح «كافر» لو استقصينا معناه تاريخياً (علم يسمى علم الإثالة) لوجدنا دلالته اختلفت باختلاف العصور التي ظهر فيها، وهو ينتشر ويزدهر استخدامه زمن الخلافات بين الفرق الإسلامية والمذهبية، الأولى أطلقته على من أساء فهم النصوص، والثانية وظفته لإخراج الآخر من الملة بهدف سفك دمه.
وعندما نصف شخصاً بأنه ضال أو منحرف فعلينا أن نحدد بدقة ووضوح عما انحرف؟ أو كيف ضل؟ فالانحراف يكون عن الخط الواضح المستقيم الذي لا خلاف مطلقاً حوله ولا غموض يكتنهه، والمنحرف والضال عادة يكون بمثابة التائه الذي لا يعرف أي طريق يتجه لا من يترك خطاً ليأخذ آخر ولديه فكرة واضحة لما يلوي إليه. ومن أجل منع الآخرين من الانحراف دون علمهم أو الانزلاق في إيذاء وطنهم ومجتمعهم علينا أن نوضح بدقة دلالة هذه المصطلحات، وخاصة المتشابه منها، وإعطاء أمثلة واضحة وتعريفات دقيقة على ذلك. والفوضى التي نشهدها اليوم تدل على غير ذلك. وغموض هذه المصلحات التي حشيت بها عقول شبابنا جعلها أيضاً متاحة للاستغلال من قبل خارجية تعبث بمنطقتنا.
ونتيجة لعدم القدرة على التحليل المنطقي، وإحلال اللغة تلقائياً محل الواقع، تم تجنيد الآلاف في منطقتنا العربية لحروب فتاكة مدمرة هي في عمقها وأهدافها أشبه بحرب طواحين دون كيوخته، وكثير منها يدور حول نصوص تاريخية مختلف عليها، بل ولا نجزم علمياً بصحتها، فوظفت هذه الاختلافات بعنف كخلافات جذرية أصولية. فهل يعقل أن يقاتل أحد اليوم ثأراً لدم علي؟ أو نصرة لمعاوية؟ وهل يستحق ذلك كل هذا الثمن، ثم إن أخواننا الشيعة اختلفوا على ماهية الولي الفقيه وخلافته وحضوره وغيابه وذلك لسبب واحد فقط وهو أنه «كيان لغوي»، له ما يشبهه في ديانات أخرى كالمسيحية في عودة المسيح؟ واليهودية في إعادة بناء الهيكل، والبراهمية في حضور براهما .. الخ. وقد اتفق علماء الانثروبولوجيا أن ظاهرة الانتظار لما هو سيحضر مستقبلاً كنهاية لعالم أو للانتصار الأبدي للدين أو المذهب ظاهرة كونية متعلقة بكافة الديانات، حتى الوثنية منها التي تؤمن بعودة الملوك وعودة الأموات. ولكن القاسم المشترك أيضا لانتشار مثل هذه التعاليم والخرافات هو تدني التعليم وعدم التمرس في التفكير المنطقي، فإغراق العقل بمثل هذه النصوص والخرافات وبشكل مستمر، يشل قدرته على التفكير ويصبح أداة مطيعة لمن أدلجه فيختلط عليه الواقع مع الخيال ويختل توازنه النفسي. وللمعلومية فهناك مدرسة في العلاج النفسي تعرّف المرض النفسي على أنه عدم الانسجام اللغوي مع المحيط الخارجي، فالمريض يفسر العالم من حوله بمصطلحات خاصة به تريه العالم بشكل آخر. فالحوريات ينتظرن الشاب الذي يفجر نفسه للظفر بهن بينما يعشن واقعياً مع من يتلاعب بعقله. حقيقة لا يتطلب اكتشافها الكثير من التفكير.