محمد أبا الخيل
على بعد أمتار من العمارة التي أسكنها مؤقتاً في سان برونو بكاليفورنيا يقع المقر الرئيس لشركة (YOUTUBE)، وربما أن معظم الساكنين في العمارة هم من موظفي الشركة، وفي أحد الأيام قابلت أحدهم حول المسبح وهو باكستاني مهاجر، ويبدو أنه من كبار الموظفين، فسألته ما الذي أتى به هنا لأمريكا وكان بإمكانه أن يفعل الكثير في الباكستان وربما يحقق ثروة كبيرة هناك، فنظر لي بابتسامة لا تخلو من سخرية وقال «يا صديقي هذه بلاد الفرص التي لن يحسدك أحد عليها»، بعد ذلك أصبحت أفكر بما قال وتذكرت أن معظم المخترعات في العصر الحديث حدثت في أمريكا وكبريات الشركات العالمية أسست فيها ومعظم أثرياء العالم يعيشون فيها، إنها حقاً ظاهرة غريبة، لذا سعيت إلى المكتبة العامة بسان برونو وطرحت سؤالي على المستشار فيها «ما الذي يجعل أمريكا بلاد الفرص الذهبية؟» فنظر لي باندهاش وقال «كثير من الكتب تحدثت عن ذلك وهي لدينا، لكن في نظري الأمر يعود لعنصرين مهمين، الأول هو بيئة أمريكا النظامية والاجتماعية المشجعة للمغامرة والثاني أن الأول أصبح حقيقة في أذهان المغامرين في كل العالم فأصبحت أمريكا هي وجهتم». كان جواب مقنع ولكن أردت أن أستزيد فذهبت لصديق أمريكي من أصول فرنسية أعرفه منذ 3 سنوات يعمل مع صديق له ذو أصول لاتينية على اختراع مثير للاهتمام هو ببساطة جهاز بث تلفزيوني محدود النطاق، ومنذ عرفته وهو يعمل في غرفة ضيقة، وكنت أعرض عليه المشاركة بالاستثمار في اختراعه وكان يتمنع بحجة أنه لا يريد توريط أحد بخسائر مالية، فهو وصديقه يستثمرون وقتهم ويتدبرون قليلا من المال. وسألته «هل تعتقد أن أمريكا هي بلاد الفرص الذهبية؟» فقام واقفاً وقال «لو لم تكن كذلك لما وجدتني أبذل الجهد وأكافح منذ 4 سنوات، فأنا اليوم على أبواب صفقة تمويل تصنيع منتجي بملايين الدولارات وربما أكون في أحد الأيام أحد الأثرياء في وادي السلكون».
خلال تلك الفترة التي كنت بها أتساءل كان لدي تصور بأن الإبداع والنجاح هو سمة فردية يحوزها البعض فتتوفر لهم الظروف فيوفقهم الله ويحققون النجاح ومنهم من ينتهي إبداعه في حظ شخص آخر غيره فيستفيد منه كموظف أو كصديق، ومن ليست لديه هذه السمة فيقوده الحظ والظروف بصورة قدرية لما يمكن أن يكون. لم أحسب للبيئة حساب كبير، ولكن بعد أن قرأت في قصص ذوي الإنجازات الكبرى وجدت أن للنجاح بيئة، فكما أن للنبات بيئة تلائم نموه فلكل نمو بيئة تناسبه، لذا جعلت أسأل نفسي ما هي سمات البيئة الأمريكية التي جعلت ذاتها أفضل بيئة للنجاح والاختراع والثروة، وحاولت أن أجد جواب مقنع لي من خلال مقارنة سمات البيئة الأمريكية بسمات بيئات دول أخرى متقدمة وأخرى تكافح لتتقدم، ووجدت سمات مشتركة مهمة وتمثل عناصر تنموية ولكن ما يجعل أمريكا مختلفة هو في تركيبتها الاجتماعية، فهي خليط من كل أجناس الناس وكل منهم يشعر أنه صاحب حق في المواطنة لا ينازعه أحد آخر فيه، هذا الخليط تكون من مغامرين تركوا بلادهم الأصلية ليمارسوا الرغبة في النجاح، لذا أصبح المجتمع الأمريكي لا يستعيب الفشل إذا ما حدث فهو عقبة واحدة من العقبات في طريق النجاح، هذا السلوك الاجتماعي انعكس في صورة قوانين وممارسات تحمي المغامر من العقاب في حالة الفشل, لذا بات لديهم نظام يشجع على المغامرة الجادة ويحمى المغامر من الظلم والقهر والاستعباد في حال الفشل، ومع ذلك يحمي هذه النظام المجتمع من النصب والاحتيال والادعاء الزائف، لذا لا يستغرب أن يكون نسبة المسجونين في أمريكا لعدد السكان هي من أعلى النسب في العالم، فحق النجاح لابد أن يحرس بقوانين صارمة.
في بلادنا لدينا سمة التنوع العرقي الذي يحفز الإبداع ولكن ليس لدينا ما يجعل المغامرة محمودة، فنظامنا الاجتماعي والقضائي يعاقب الفشل عقابا صارما، فهو يساوي بين من يجتهد ولم تخدمه الظروف فيخسر ويتكبد الديون وبين من ينصب على الناس ويستلب أموالهم، لذا لن نكون بلد مضياف للمغامرة والاختراع والإبداع طالما ننظر للفشل على أنه كبوة تحطم الطموح والأمل والسمعة، بل علينا أن نعتبر بقصة النملة والفلاح التي تعلمناها في كتاب المطالعة في مقررات المرحلة الابتدائية ونجعلها قصة يعيها كل من يؤثر في قرارات الاستثمار.