علي الخزيم
قد يظن البعض إن هذا العنوان مما تأخر عن وقته، أو أنه من المنسيات على المكتب؛ والصواب أنها فكرة وليدة ساعة كتابتها إذ إن التأملات في الشهر الكريم تستمر حتى بعد أن مضى ولم يكن عنّا ببعيد جداً فذكرياته وروحانيته لا زالت تغمر النفوس، ولم تزل القلوب مفعمة ببركاته وما تنزّل فيه من رحمة ومغفرة، ثم إن الشهر العظيم زاخر بالدروس والمواعظ مما يُمْكن تدارسه والإفادة منه طيلة العام، فتتراكم مع السنين والقرون معارف عظيمة وحكم جمّة تستنبطها الأجيال بمن أعطوا حظاً من العلم بما لا يخرج عما جاء به الشرع وتناقله السلف، وبما يوائم فقههم لواقعهم ومن ثم تطبيق هذه الدروس والفوائد الرمضانية عليه في إطار من تعاليم الإسلام الحنيف، فالاحتفاء بدخول الشهر الفضيل ما هو إلا بداية لاستقبال مزيد من الدروس المستفادة منه وتجديد للعهد مع دروس سابقة وتطوير لآلية التعامل مع كامل ما تعلمناه واقتبسناه من إضاءات رمضانية، ومع تعاقب الأعوام والأجيال ومع الصدق في العمل وإخلاص النوايا نكتسب تراكمات معرفية روحانية لعلنا نبلغ بها جزءاً من المأمول منا قولاً وعملاً في الشهر المبارك.
فمن الصور التي كانت مزعجة إلى حد القلق؛ تلك المشاهد الرهيبة التي كنا نراها قبيل أذان المغرب وما يمارسه البعض من قيادة متهورة للسيارات راح ضحيتها أرواح بريئة وتسببت بإعاقات وإصابات بالغة خطيرة لكثير من الأجساد، كل ذلك بدعوى اللحاق على الإفطار في المنزل، مع إن في الأمر فسحة، وكما يقول أهل العلم إن المقصود بتعجيل الإفطار هو عدم تأخيره بصورة مبالغ بها، وأنه إذا تعذر على المرء الإفطار كما ينبغي لأي سبب فالنيّة كافية لحين تيسر الأمور، هذه الصور تبدلت ولله الحمد مع تبدل المعارف والثقافات وتعمّق الناس بأمور دينهم بشكل واقعي عقلاني، فنشاهد الفتيان المتطوعين عند إشارات المرور يقدمون للمارة وجبات الإفطار، والحق يقال إن تنافساً أخذ يظهر من بعض الأسر على تقديم الأفضل من وجبات نظيفة مرتبة غنية غذائياً، كان لها أثر بالغ في إشاعة الطمأنينة على قائدي المركبات وتقليل الحوادث في تلك الفترة المغربية، كنت ذات يوم افتقد للسواك وأنا متجه لدعوة على الإفطار فهو الوسيلة المتاحة قبل التوجه للمسجد، وعند إشارة المرور كان شاب يوزع الوجبات وبداخلها سواك مُغلّف فكان أجمل هدية تلك الساعة، أسأل الله سبحانه أن لا يحرمه (ومن خلفه) ما دعا له الصائمون، ويتبارى الناس ويبدعون من خلال مشروعات تفطير الصائمين سواء على مستوى الأسر أو تجمعات الإعلاميين والرياضيين وفي مواقع متعددة وأشكال وصور متنوعة، كلها تبرهن على مدى الوعي أولا بأهمية ومشروعية الصيام وضرورة التمسك بحكمة الصوم ونشرها، والعمل على نقل محاسن الصوم بما فيها التكاتف الأسري الاجتماعي للأجيال وتعويدهم عليها، وترغيبهم وتشجيعهم على الابتكار والإبداع والتجديد في هذا الشأن الهام، فدروس رمضان لا تنحصر بالامتناع عن الغذاء، بل هي أعم وأشمل، واستذكارها مستمر.