جاسر عبدالعزيز الجاسر
تطوير وتعزيز العلاقات بين الدول يعتمد على توجهــات وتوجيهـات القيادات السياسية في تلك البلدان وقدرة من يمثلهم على تنفيذ وترجمة تلك التوجيهات، ولذلك تحرص الدول على التدقيق واختيار ممثليها في تلك الدول وفق مواصفات دقيقة لا تتوفر لدى العديد من الأشخاص حتى المؤهلين والذين يخضعون لتأهيل علمي ودراسي، ومع هذا يبرز كثير في هذا المجال.. فممثلو الدول «سفراء» مثلهم مثل الأدباء والمفكرين يبرز منهم المبدعون أصحاب المبادرات والذين يضيفون إلى الدبلوماسية التي يمثلونها إضافات جديدة تعززها كمدرسة متميزة.
الدبلوماسية السعودية واحدة من المدارس الدبلوماسية التي تميزت بنهجها الأخلاقي والمبدئي والتعامل الصادق حتى مع الأعداء.. طبعاً ليس من المنطقي والمعقول بأن يكون التعامل مع الحلفاء والأصدقاء مثل التعامل مع الأعداء مع الذين يكيدون لبلادك حتى وإن لم يعلنوا عن ذلك، إلا أنك تعرف توجهاتهم.
كما أن تعاملك مع الأشقاء من الدول العربية والإسلامية لابدّ وأن يختلف عن تعاملك مع المجاميع -الدول الأخرى-، إذن الدبلوماسية السعودية لا تزال تحافظ على مبادئها الأخلاقية رغم تخلي العديد من الدول عن هذه المبادئ، متجهة خلف مصالحها ومتسلحة بالبرغماتية وغيرها من المصطلحات التي توظف حسب حاجة الاستفادة منها.
من النماذج التي تؤكد ثبات السياسة السعودية وقدرة الدبلوماسية وسفرائها على ترجمة هذه السياسة عاكسة الصورة الحقيقية لفلسفة الحكم والقاعدة الشرعية التي يستند إليها، ومن أهمها الصدق في التعامل والأمانة في التمثيل والالتزام بالمبادئ الإسلامية التي تتجاوز ضيق المصالح الذاتية إلى المساحات الأرحب لمصالح الأمة.
وخير مثال لتوضيح ذلك هي العلاقات السعودية المصرية التي مرت بمنعطفات عديدة والكثير من حالات المد والجزر، بدءاً من حكم محمد علي في مصر إلى حكم السيسي.. وإذا كانت بدايات العلاقة الحديثة قد بدأت دامية نتيجة سياسة القمع العثمانية وتحريض ولاتها لمهاجمة الأمم التي تعارض سطوتها وانحرافاتها، إلا أن مراحل العلاقات بين البلدين أكدت أن كلاهما بحاجة إلى الآخر وأنهما بمثابة جناحي الأمة، وإن مهدت العلاقات الجيدة بين الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن والملك فاروق وساعدت على إنشاء جامعة الدول العربية، إلا أن العلاقات السعودية - المصرية عادت للانتكاسة في عهد عبدالناصر لأسباب أيدلوجية وظهور بدايات الصراع بين الفكر الإسلامي والقومي، ثم تنتعش هذه العلاقات في بدايات عهد أنور السادات الذي تمكن من خلاله التنسيق والتعاون مع الملك فيصل من تحقيق أكبر وأهم انتصار عسكري في 1973م.. ثم الإصرار على اتخاذ القرارات الانفرادية والاختراق الأجنبي أصاب العلاقات السعودية - المصرية بانتكاسة ثانية أصلحت في عهد حسني مبارك الذي لم يستثمر تحسن هذه العلاقات لتحقيق إنجازات للأمة، إلا أن العلاقات الطيبة بين البلدين انعكست على مجمل العلاقات العربية مما جعل المنطقة هادئة، وإن كان هدوءاً لم يضف شيئاً للمسيرة العربية.
وكادت العلاقات السعودية - المصرية تصاب بانتكاسة ثالثة عندما وصل الإخوان المسلمون للسلطة في مصر وقبلها سنوات الضياع بعد اضطرابات 25 يناير، وظهور جماعات فوضوية مُسيرة من خارج مصر، إذ كادت إحدى جماعات 6 أبريل أن تعصف بالعلاقات السعودية - المصرية وتدمرها عندما حاولت الاعتداء على السفارة السعودية في القاهرة، مما جعل المملكة تستدعي سفيرها في القاهرة؛ ولولا المعالجة الحكيمة للقيادة السعودية ودور السفير السعودي أحمد بن عبدالعزيز القطان في معالجة الأمر والتعامل بفهم مع السلطة القائمة آنذاك التي لم تكن تضمر حباً للحكومة السعودية، لكانت تلك الانتكاسة تأثيرات سلبية لو لم تعالج بحكمة لاستمرت ليومنا هذا.. وكان للسفير السعودي أحمد بن عبدالعزيز القطان دور مؤثر لحكمته في التعامل رغم أجواء الانفعالات والتصرفات الغوغائية للذين حاولوا اقتحام السفارة والغطاء المبطن لجماعة إخوان المسلمين الحاكمة، وهنا يبرز ويظهر دور السفير، وكان من حسن حظ المملكة العربية السعودية ومصر وجود سفيرين في ذلك الوقت، جديرين بعملهما ومتفهمين لدورهما.. فالسفير السعودي أحمد عبدالعزيز القطان تعامل بحكمة وهدوء مع تصرفات الغوغائيين؛ واستطاع السفير المصري آنذاك محمود عوف امتصاص العديد من ردود الفعل ومحاولات التحريض التي كانت تنصب عليه من القاهرة من جهات إعلامية معادية لأي علاقة مميزة بين البلدين.