د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
انهمرت علينا كالعادة مع كل موسم لهجرة الطيور مقاطع العبث بالبيئة كالبرد الضخم مع وابل الصيف. وضاقت وسائل التواصل الاجتماعي بمقاطع آلاف الطيور المقتولة تفترش أراضي الخيام والاستراحات بشكل استعراضي مقزز. فصيد هذه الطيور المهاجرة المتعبة يتم بشكل منظم عبر خرائط وإحداثيات وشباك وأسلحة نارية وكأنما القوم في حرب إبادة وليست رحلات صيد كما يدعون. والأسوأ أنهم لم يجدوا ما يصطادونه أطلقوا نيران أسلحتهم في الطريق على الغربان والنسور والهداهد والجرذان وكل ما يقابلهم من ذوات النفس وذلك لإشباع رغبة دفينة للقتل والإفساد، وتفريغ الإحساس بالإحباط.
ولا شك أن العبث بالبيئة مؤلم ولكن الأمر الأشد إيلامًا أن العابثين بالبيئة يعرضون مشاهدهم في الصيد والاحتطاب الجائر بنوع من التفاخر وكأنهم في مسابقة كبرى للتدمير البيئي، ويرددون مع ذلك عبارات الحمد والشكر على توفيق الله وتيسيره وهم لا يعلمون أن الله سيحاسبهم على كل حيوان قتلوه تسلية أو عبثًا وعلى كل شجرة اقتلعوها. فالصيد المباح شيء والصيد الجائر العابث بأسلحة مدمرة شيء آخر. كل ذلك يحصل مع غياب تام لأجهزة الرقابة أو هيئات النصح والإرشاد التي ربما تجهل هي الأخرى أهمية الحفاظ على البيئة ولا تعرف أن الضرر الذي يحصل للبيئة لا يمكن علاجه أو استرجاعه فيما بعد.
لدينا هيئة اسمها هيئة حماية الحياة الفطرية وإنمائها ولا نتهمها بالتقصير في عملها لأننا لا نعرف عن أدائها شيئًا، والبعض منا يعتقد أنها هيئة شرفية تكميلية فقط. فإذا كانت موجودة فعلاً فنستغرب منها قصورها التوعوي والتنويري في الحفاظ على بيئتنا التي تسير بخطى حثيثة في طريق الاندثار. ونحن في هذه المرحلة قد لا نطالبها بإنماء الحياة الفطرية بقدر ما نطالبها بالحفظ على ما تبقى منها إن بقي ما يمكن الحفاظ عليه فلا يمكن إنماء شيء قد وصل لمرحلة الانقراض. فهناك غياب تام للهيئة ليس على مستوى الحماية وملاحقة العابثين فقط ولكن أيضًا غياب عن ساحات الإعلام التقليدي والاجتماعي. فبيئتنا تبدو يتيمة مستباحة بشكل كامل ومتواصل. فقد تحول الدوران في الصحراء وإيذاء البيئة موضة لدى الشباب وعمل سبارطي يسعى من خلاله لاختبار رجولته وحزابته يتفنن في أساليب الطبخ والنفخ لأيام معدودة، ولكن وبمجرد أن يعود لبيته يعاود حياة الكسل حيث يأكل ويتبطح بقية السنة ولا يكلف نفسه رفع الماعون الذي أكل منه. ولو أدرك حميدان الشويعر عصرنا هذا لاعتبر ابنه مانع فارسًا مغوارًا مقارنة به.
قُبض قبل عامين على معتوه قضى على قطيع كامل من غزلان الوضيحي واستعرضها فوق سيارته في منظر مقزز مصحوب بالغناء والموسيقى، وهي غزلان مستأنسة أطلقت للتو من حظائر لإكثارها فلم تبتعد كثيرًا عن حظائرها ولم تكن في مناطق وعرة، فصيده لها كان أشبه بصيد ماعز خرجت للتو من حظيرة مزرعة. أعمل فيها «الشقردي» بنادقه التي تعلوها النواظير متفاخرًا في منظر تستحي من وصفه الكلمات. وعلى الرغم من ذلك لم تعلن عقوبته ولم يشهر به وكأنما في ذلك دعوة لاستمرار مثل هذه الممارسات. وكان الأحرى أن تنزل به عقوبة رادعة يتبعها تشهيرًا ومتابعة لأخبار العقوبة تجعله عبرة لمن يعتبر ولكل جاهل لا يفهم إلا لغة الردع.
واليوم تتفاخر مجموعات ممن يدعون محبة الصحراء والبر في مجال قتل كل ما يتحرك في الصحراء التي يدعون الهيام بها، فأي حب هذا؟ ويقال: إنهم بدؤوا مؤخرًا بجلب الأعداد الكبيرة من الطيور التي يصطادونها للأسواق لبيعها لأنهم لا يستطيعون أكلها أو تخزينها من كثرتها. وبالطبع يتم ذلك من دون ملاحقة ولا حسيب ولا رقيب. ولو سألت أحد منا عن تصنيف الحيوانات في بيئتنا فيجيبك تلقائيًا بأنها تنقسم لقسمين: ما يؤكل لحمه وما لا يؤكل لحمه. تصنيف بسيط وتلقائي يعتمد البطن لا العقل.
وهناك ادعاءات متداولة يروج لها من يمارسون هذه العادة المدمرة بأنهم إن لم يقتلوا هذه الطيور التي تهاجر بفطرتها سيقتلها غيرهم، وهذا ادعاء باطل وغير صحيح فالصيد بهذا الشكل لا يمارس إلا في بلادنا لأن شعوب الأرض الأخرى ليست بالجهل والتهور وعدم الاكتراث بالبيئة مثلهم. بل إن بعض الشعوب الأخرى تشتري أدوات لتغذية الطيور تضعها في طريقها في الشتاء لتجد ما تأكل حفاظًا عليها. ولا يمكن أن تجد من يصطاد مئات الطيور لوجبة واحدة إلا لدينا فنحن أيضًا من يبذر ويرمي بأطنان الأطعمة في النفايات. نعم، ويحب أن نعترف بذلك صراحة، لدينا ممن نعتبرهم مواطنين من يمكن أن يكونوا مضرب المثل في الإفساد والتهور وليس أدل على ذلك إلا منظر الشباب الذين اصطادوا بطة من حديقة عامة في أوروبا بالتظاهر بإطعامها ثم ذهبوا بها لمكان إقامتهم لطبخها بالرغم من أن لحمها غير قابل للأكل وغير مستساغ!! ويقال: إن شابًا نسي والدته في أحد المطارات لانشغاله بأمور شحن شنطة السنيدي معه في رحلته!!
تقدمت بعض البلديات في دول أوروبية، غير ملامة، باقتراحات لحكوماتها بتقليص عدد التأشيرات للسياح الخليجيين لسوء تعاملهم مع الحدائق والمتنزهات، فعادات الكسل وتوسيخ الأماكن العامة أكتسبها مواطنونا من بلادنا واصطحبوها معهم للخارج بكل أمانة واقتدار، فالطبع يغلب التطبع، وأبو طبيع ما يخلي طبعه كما تقول أمثلتنا الشعبية. النزهة لدينا لا تكتمل إلا بطبخ، ونفخ، وقدور ومكسرات وفصفص وكيك، ودونات، وتشبس وعلوك للبزارين وغير ذلك وكأنما نحن قادمون من مجاعة. وعادة ما نعود من النزهة بتخمة وعسر هضم وتلبك معوي. ونحن لا نتحرك ولا نتفاعل مع الطبيعة من حولنا إلا في حدود ما يؤكل ويوضع في القدر ليطبخ، أو إفراغ ما تم أكله. وعادة نتحلق في مربع صغير نغادره بعد أن نصاب بالتخمة ونتركه مليئًا بالقمائم لأننا نجزم بأن البلدية ستنظف قاذوراتنا مثلما الخادمات في المنازل ينظفن منازلنا. وفي حال اصطحبنا الخادمات للنزهة فهن لمراقبة أطفالنا حتى لا يشغلونا عن أمور قضمنا.
ولا أحد يلوم الأوروبيين لفعل ذلك مع أنهم أعدوا بلدانهم لاستقبال الضيوف والسياح وبعض مدنهم ومقاطعاتهم تعتمد في معيشتها بشكل كامل على السياحة ولكن الحفاظ على البيئة وعلى المتنزهات العامة بالنسبة لهم مقدم على الكسب المادي، وهذا منطق لم نتوصل لفهمه بعد. فنحن سيطر جزء الطعام على الحيز الأكبر من وعينا بحيث لم يبق مكان للوعي بالآخر سواءً كان حجرًا أو بشرًا. الآخر الذي يتأذى من ممارساتنا، الآخر الذي سيعقبنا على المتنزه، الآخر الذي هو أولادنا وأحفادنا الذين سنخلف لهم بييئة جرداء من كل شيء إلا صفير أكياس النايلون وحفيف أكواب الفلين وصوت إيقاع دحرجة الجوالين والعلب الفارغة، هذا الآخر لا يدخل حساباتنا.
الأوقات المستقطعة التي نتوقف فيها عن الأكل والأضرار بالبيئة أو ملاحقة الحيوانات البريئة والفتك بها هي أوقات الصلاة، الصلاة ليس لشكر الله على نعمة والتفكر في خلقه، ولكن الصلاة التي نحاول أن نتجنب بها إثم تركها، ونزيح منها كابوس جهنم من رؤوسنا، ولا ندرك أن العذاب يطول أيضًا من يقتل مخلوق مستضعفًا دون حاجة جدية أو إتقاء أذى حقيقي. وأن العذاب أيضًا قد يطول من يترك الأذى في طريق الآخرين بدلاً من أن يميطه عنه، العذاب الذي يأتي من الإسراف، والتبذير، والشبع المفرط، والبحم غير المنضبط. فالمسلم، ولا نقول المؤمن، يؤجر إذا أحسن للناس وللبيئة ويأثم إذا أساء لأي منهما. أما المؤمنون فيحبون دائمًا للآخرين ما يحبون لأنفسهم وإذا نزلوا بأرض تركوها خير مما نزلوها. ولذا فنحن نطلب من المسؤولين في الدولة أن يدعموا هيئة حماية الحياة الفطرية (وإنمائها) بكافة الإمكانات ومتابعة أدائها ومتابعة أداء مسؤوليها، وحتى يخرجوا البعض من حاله الجهل البائس التي يعيشها، فالحفاظ على البيئة وإعادة تأهيلها ضرورة حيوية في بلد بيئته فقيرة أصلاً.