عبدالعزيز السماري
من أهم تحديات المرحلة هو صراع الهويات في المجتمع، ويعتبر التعليم المدخل الأهم في تشكيل وعي المواطن الإنساني والاجتماعي والسياسي، وما يجري في مدارس التعليم الأهلية عند مقارنتها بالتعليم العمومي، يرفع من معدلات ذلك الصراع، فالتعليم العمومي بالعربي هو المجاني في المدارس الحكومية، والأرخص في المدارس الأهلية، وتم تصميمه للعوام من أصحاب الدخل المحدود، وبالتالي يتلقون المناهج العلمية في نسخها القديمه والمنتهية الصلاحية، وبمختلف مصادرها باللغة العربية، كما يتعلمون مناهج الدين بشكل أكثر توسعاً نسبياً..
بينما يعتبر المنهج «الدولي» كما يطلق عليه في المدارس الخاصة، برنامج لأصحاب الذوات القادرين على دفع الرسوم الأعلي، وكأن التعليم يدشن من خلال هذه الإستراتيجية دخول مرحلة الباشوات أو العائلات «الكلاس»، و التي تتواصل مع أبنائها من خلال اللغة الإنجليزية، ثم تتحول لتصبح كالوسم الذي يجعلها أكثر تميزاً أو اختلافاً عن العوام في مجالات العمل والابتعاث.
من أهم مشكلات خريجي المنهج الدولي غربتهم عن الثقافة المحلية، ولذا تتشكل هويتهم في نموذج هجيني من خلال تلقيه مناهج العلوم المتطورة باللغة الإنجليزية، وعبر صداقاته مع الأقلية التي تنتمي لتلك الثقافة، وبالتالي يفتقد مع مرور الزمن للهوية الوطنية الطاغية، و لأهم سماتها ومصطلحاتها، والتي يستطيع من خلالها التواصل مع المجتمع، ومن أسباب انتشار هذا النموذج مطالبة العائلات الثرية به، وذلك اعتقاداً منها أن فيه تميزاً لهم عن بقية الشعب، وقد مرت بعض الشعوب في هذه المرحلة، وكانت آثارها كارثية.
يدخل في قائمة الصراع على الهوية فئة ثالثة تنتمي لعائلات محافظة جدا، ويتلقى أبناؤهم التعليم من خلال منهج ديني مكثف، مع إطلاع مخفف على مناهج الرياضيات والعلوم الطبيعية، وكان للمدارس العلمية الدينية كما يُطلق عليها انتشار في الماضي، ولازالت بعضها موجود، هذا بالإضافه للذين يرسلون أبناءهم إلى مناهج حكومية لتحفيظ القرآن، والملفت للنظر أنه أيضاً توجد مدارس أهلية لتحفيظ القرآن، وتقدم منهج للعلوم الشرعية المكثفة.
ستكون نتيجة مخرجات هذا الاختلاف المتضاد في طرق التعليم منذ الصغر بيئة مهيئة للصراع في تشكيل الهوية الوطنية، بينما كان من المفترض أن يكون هناك منهج وطني موحد في التعليم لمختلف مراحل التعليم قبل الجامعي، ويتم فرضه على الجميع بدون استثناء، ويُسمح للجميع بأن يعلموا أبناءهم المواد الأخري خارج المنهج أو في الصيف، ويكون منتجه النهائي هوية وطنية تستطيع التواصل مع التاريخ والتراث والجغرافيا والعلم الحديث بمختلف اتجاهاته، والأهم من ذلك متصالحة مع واقعها، ولا تقدم هوية مضادة لفئات أخرى في المجتمع.
الغائب الأكبر في قضية التعليم هو التطوير، والمدخل الأهم في ذلك التطوير استخدام اللغة العربية بشكل مكثف في مهمة تقديم العلوم بمختلف تخصصاتها في قالب متطور، ولن نصل إلى تلك الحالة إلا بوجود مركز تعليمي عال للترجمة الفورية للعلوم الحديثة، كما يحدث في مختلف أنحاء العالم، في كوريا واليونان والصين وفنلندا، وأيضاَ في الكيان الصهيوني، الذي أعاد التأهيل للغته الميته منذ آلاف السنين، لتصبح حاوية نشطة للعلم الحديث.
تجربة التعليم بتونس جديرة بالتعرف عليها والاستفادة منها في مشروع التعليم الوطني، و الذي لازال يقدم هويات متصارعة وضائعة بين الانطواء على الذات، والتعليم داخل القوالب الجامدة من جهة، وبين التعليم ضد التيار عبر نقل النموذج الأجنبي بإيجابياته وسلبياته، فالمقاربة التي اعتمدت في تونس استطاعت أن تجد طريقا وسطا يعتمد على تركيز شخصية الطالب على الثوابت الوطنية وخاصة فيما يتعلق باللغة العربية.
فالطالب في تونس يدرس في التعليم الأساسي جميع المواد العلمية والاجتماعية باللغة العربية على امتداد تسع سنوات يكون في نهايتها قد أتقن القواعد الأساسية للغة العربية، ومع بداية المرحلة الثانوية يتلقى الطالب دروس الرياضيات والفيزياء والعلوم الطبيعية والتقنية باللغة الفرنسية وأحيانا باللغة الإنجليزية ليتوج دراسته بحصوله على الدبلوم الشهير المسمى بالباكالوريا والذي يفتح أمامه العالم على مصراعيه للالتحاق بأي جامعة في العالم.
بإيجاز، مناهج التعليم المعتمدة في الوطن بمختلف أنواعها تنتج هويات متصارعة، أولهم خريجو المناهج العموميه، والتي يتخرج منها الطالب بهوية تتقن لغة الاتصال مع المجتمع، وتتواصل مع كافة فئاته بدون صعوبات، لكنها تفتقد للتأهيل في مناهجها العلمية والتطبيقية، والتي تتطلب تحديثاًِ سنوياً من أجل مواكبة التطور العلمي.
وثانيهم خريجو المنهج الدولي في المدارس الأهلية، وهم فئة تعيش في وهم الاختلاف والتميز عن بقية المجتمع، بينما هم في حقيقة الأمر يواجهون صعوبات في التواصل الاجتماعي والثقافي، وسيكونون مهيئون للهروب من الواقع في أي لحظة.
وثالثهم خريجو مدارس العلوم الشرعية، والذين يعانون عادة من ضيق الأفق في تقبل الآخر، وسيكونون دوماً نواة لتخريج نماذج من التطرف الديني، تذكي من حدة الصراع حول الهوية الوطنية، و تختلف حول أيهما مقدم على الآخر.. الوطن أم الأمة!، والله على ما أقول شهيد.