أ.د عبدالله بن أحمد الفيفي
(27 - شهادة سترابو، وألينيوس، ويوسيفُس، وابن مُنَبِّه)
تطرّقنا في المقال السابق إلى شهادة (هيرودوت) حول تاريخ الشرق الأوسط القديم. ذلك التاريخ المتواتر المعروف، الذي لا إشارة فيه إلى ما يشي بشيءٍ ممّا زعمه (د. كمال الصليبي) من تاريخ (بني إسرائيل) في الجزيرة العربيَّة. ومن نحو ذلك نجد لدى من تلاه من المؤرِّخين، كـ(سترابو، -24م)(1)، الذي يشير إلى قيام (أورشليم) في (فلسطين)، وإلى أنها «مدينة اليهود The metropolis of the Judaeans». وكذا لا نُلفي أيَّ لمحةٍ لدى (كلاديوس ألينيوس Claudius Aelianus، -235م)(2)، في كتاب «تاريخه المتنوِّع» من ذلك التاريخ المبتكر الذي أُلهِم به الصليبي على غفلةٍ من التاريخ! فكيف لم يتفجَّر هذا العِلْم اللدُنِّيّ الجديد بتاريخ العرب المقلوب إلّا في نهايات القرن العشرين؟ أم لعلَّ هؤلاء المؤرِّخين تآمروا مع (آل شريم) في (النماص) لإخفاء الحقائق؟!
على أن الصليبي حين يصل إلى هيرودوت سيفسِّر لنا الأمر بأن تدمير الملك البابلي (بختنصّر) مملكة (يهوذا)، في (عسير) وغرب الجزيرة، خلال القرن السادس قبل الميلاد، قد قضى على كلّ شيء. أمَّا وجود إشارات إلى اليهود في (فلسطين)، فإنما هو إلى مملكة بديلة قويَّة أقيمت هناك من قِبَل المهاجرين من الجزيرة إلى (الشام).(3) لكن لماذا يقيمون دولتهم البديلة هناك؟ أما كانت ديارهم في عسير أَولَى بهم، وآمَن لهم، وأجدر أن يعودوا إليها، لا أن يُلقوا بأنفسهم إلى التهلُكة، بين أيدي أعدائهم؛ فيكونوا بين كمّاشتَي مَلِك (مِصْر) من جانب ومَلِكَي (بابل) و(فارس) من جانب؟ إنه الغباء بعينه! فلو كانت افتراضات الصليبي معقولة، لما كان من الحكمة مطلقًا - لا بالقياس إلى إرث (سليمان الحكيم) ولا حتى بالقياس إلى إرث (هبنّقة) الحكيم - أن يؤسِّسوا مملكتهم في فلسطين، في أحضان أعدائهم! بل أن يعودوا إلى دِيَرَتهم في عسير، أرض الأباء والأجداد، والنبوَّات والأنبياء والرسل، أرض الميعاد وأورشليم المقدَّسة.
كما أن المؤرِّخ اليهودي (يوسيفُس، -100م) لم يشِر، لا من قريب ولا من بعيد، إلى مزاعم الصليبي حول تاريخ بني قومه من بني إسرائيل في جزيرة العرب، وإنما كان يتحدَّث عن تاريخهم في فلسطين. فما منعه من ذلك؟! إن الصليبي حين يرتطم بمثل هذا يُصِرّ على القول إن يوسيفُس كان يعرف معرفةً تامَّةً أن أرض بني إسرائيل الأصليَّة في مكانٍ آخر، لكنه يكتم عِلْمه. وكذا غيره من علماء اليهود كانوا يفعلون.(4) غير أنه لا يخبرنا عن سِرّ هذا الكتمان الذي لم يبُح به للعالم إلّا الصليبي نفسه؟!
ولنأت إلى مؤرِّخ آخر ذي مرجعيَّةٍ يهوديَّةٍ، وهو يمانيٌّ أيضًا. وما نحسب أن مثله كان سيفوته ولو طَرَفٌ من ذلك التاريخ الطويل جدًّا لبني إسرائيل، الذي زعمه الصليبي في جزيرة العرب. إنه (وهب بن مُنَبِّه)، صاحب كتاب «التِّيجان». فلقد ظلّ ابن مُنَبِّه، بخلاف مزاعم الصليبي، يشير إلى أن مسارح الأحداث، على عهد (داوود) و(سليمان)، كان مركزها (الشام) و(العراق). كما يشير إلى غزوات كانت لبني إسرائيل تُشَنّ من بلاد الشام على الجزيرة العربيَّة، وعلى مَكَّة تحديدًا، مستلئمين بأنصارهم من (الرُّوم). ويشير إلى مناوشات بينهم وبين عرب مَكَّة و(الحجاز) عمومًا، من (الجرهميِّين) و(العماليق). كلّ ذلك وبنو إسرائيل قاطنون في بلاد الشام لا في جزيرة العرب، فضلًا عن أن يكونوا في جنوب جزيرة العرب وغربها. ذاكرًا أن بيت المقدس (أورشليم) هو في مكانه المعروف تاريخيًّا، وكان موطن قداستهم الأَوَّل منذ القِدَم، لا في أيّ مكانٍ آخر.(5)
فكيف يُتصوّر غياب ذلك العِلْم «الصليبي» المستحدث عن المؤرخ اليهودي الأصل ديانةً، العربي اليماني الأصل عِرقًا، وهب بن مُنَبِّه؟! هذا على الرغم من أن الصليبي، كما رأينا من قبل، حين استشهد ببعض كلام وهب بن مُنَبِّه قد عمل على اقتصاص ما في سياق كلامه من إشارات صريحة إلى أن موطن بني إسرائيل كان في بلاد الشام منذ كانوا، وأن علاقاتهم بالجزيرة إنما كانت علاقات غزوٍ أو تجارة.(6) وذلك، للأسف، هو نهج الصليبي- الذي وقفنا عليه سابقًا- مع ما لا يُعجبه من النصوص، وإن اضطُرَّ إلى الاستشهاد به. وذلك الذي جاء عن وهب بن مُنَبِّه هو المتواتر على مدى التاريخ، العربي وغير العربي. وهو ما يشير إليه (الهمداني) في كتابه «صفة جزيرة العرب»(7)، نقلًا عمَّا «أتى عن بطليموس القلوذي في طبائع أهل العمران من الأرض على التبعيض والتجزئة»، قائلًا:
«وأما سائر أجزاء هذا الربع الذي يلي وسط جميع الأرض المسكونة وما يقع في جزيرة العرب منها مثل إيدوما وأرض سورية وأرض فلسطين وبلاد اليهود العتيقة من إيليا، وتسمى بالعِبرانيَّة يرشلم، وتعربها العرب فتقول أُوراشلم، وبلاد الأعراب الخصيبة، يريد فلاة العَرَب م ن نجد والحجاز والعَروض وبلاد فونِيقا، يريد اليَمَن، وما والى هذه البلدان، فإنه يَقبل أيضًا مشاكل المثلث المنسوب إلى ناحية الشمال والدبور وهو مثلث الحمل والأسد والرامي، الذي يدبره المشتري والمرِّيخ وعطارد أيضًا. ولذلك صار أهل هذه البلدان أكثر تقلّبًا في التجارة من غيرهم، أصحاب معاملات وأصحاب مكرٍ وغشٍّ، متهاونين للأموال، للسخاء الذي فيهم، ومعهم رجاحة عقل وذكاء وتدبير في الأخذ والعطاء، ويحبُّون أنفسهم. وهم بالجملة ذوو وجهين ولسانين لأجل مشاكلتهم لهذه الكواكب، فمن كان منهم في بلاد سوريَّة، وهي أرض بني إسرائيل، وبلاد إيدوما، وبلاد اليهود العتيقة، فهم يشاكون الحمل والمرِّيخ خاصّة؛ ولذلك صار هؤلاء متهوّرين، لا يعرفون الله عزّ وجلّ حقَّ معرفته.»
هذا، ونؤكِّد ما سبق الإلماع إليه من أن الإشكال الجوهري في محاولة الصليبي، وسابقيه ولاحقيه من الباحثين عن الأماكن الواردة في التوراة، أنهم لا يلتفتون إلى طبيعة النصّ التوراتي نفسه. ذلك أنهم، أوَّلًا، يسلِّمون بأن الكتاب سليم من التحريف والخلط، ويسلِّمون، ثانيًا، أنه مصدرٌ تاريخيٌّ وجغرافيٌّ، ووثيقةٌ لا تنطق إلّا بالحقائق والمعلومات الزمانيَّة والمكانيَّة. فيما نحن لا نسلِّم بتلكما المسلَّمتين كلتيهما؛ فلقد اعتورتْ الكتابَ الأيدي والتغييراتُ والتبديلاتُ والتلفيقات. وهو، إلى ذلك، غاصٌّ بالأساطير المجتلبة من هنا وهناك. وهو نفسه ذو أسلوبٍ أُسطوريٍّ وبناءٍ شاعريٍّ. بل هو في بعض أجزائه شِعرٌ أُسطوريٌّ خالصٌ، كما في «نشيد الأنشاد»، وأضرابه. والشِّعر لغة الخيال والمجاز والتصوير، لا لغة الإخبار وسرد الحقائق التاريخيَّة والجغرافيَّة. فإذا أُضيفت الأُسطورة إلى طبيعة الشِّعر، صرنا إزاء نصٍّ ملتبسٍ أشدّ الالتباس، وصرنا إزاء نصٍّ لا يصحّ أن يُؤخذ مأخذ الحقائق المسلَّمة، ولا المعلومات التحقيقيَّة. وعلاقة المؤرِّخ بنصوص كهذه هي- عادةً- علاقةٌ في غاية السذاجة؛ تنطلق من ذهنيَّةٍ لا تفقه طبيعة النصِّ الذي تتعامل معه أصلًا؛ فقد ألِفت التعامل مع وثائق نثريَّة، إخباريَّة وتقريريَّة، لا تخييليَّة ولا شِعريَّة ولا أُسطوريَّة؛ حين تقول إن الحدث وقع في مكان كذا، فهو قد وقع هناك، ولم يبق إلَّا أن نحفر لنتقصَّى الحقائق آثاريًّا. وذلك هو الضلال المبين. من حيث إن القصيدة الشِّعريَّة، وما في حُكمها، وما في شِبه حُكمها، لا تُصبح مصدرًا تاريخيًّا إلَّا حين تُقرأ قراءةً نقديَّةً تأويليَّةً من متخصِّص في النقد الأدبي. وهي، حتى بعد تلك القراءة، لا تمنحنا الحقيقة التاريخيَّة أكيدةً، وعلى طبقٍ من احتمالٍ وحيد. ومن ثَمَّ فإنها لا تصلح وثيقةً تاريخيَّةً إلَّا على سبيل الاستئناس، الذي، ما لم تدعمه شواهد آثاريَّة ملموسة، بقيَ خيالًا أدبيًّا، يقول ما لا يفعل، ويهيم في كلِّ وادٍ، فيتبعه الغاوون من المؤرِّخين! ونحسب أن التوراة، بملاحمها وأناشيدها وقصصها وأساطيرها، من هذا الضرب الإشكالي من النصوص. وكما كان يخطئ البلدانيُّون العرب في الاعتماد على الشِّعر في تتبَّع الأماكن، يخطئ من يسعى من وراء التوراة إلى تعيين الأماكن التي تَرِد فيها على وجه اليقين.
إن الشاعر- ومن تقمَّص صنعته- كذّابٌ فنِّيٌّ، حرفته الكذب. فلقد يذكر في بيت واحد اسمَي مكانَين أحدهما في المشرق والآخر في المغرب، لا للإخبار عنهما، ولكن بوصفهما رمزَين، أو لأنهما موحيان بظِلالٍ دلاليَّة تعتلج في نفسه. وقد لا يعرفهما، ولا يدري أين يقعان بالضرورة.(8) تلك طبيعة الشِّعر الخاصَّة، وما شاكله من النصوص. وكذا الطبيعة النصوصيَّة في «نشيد الأنشاد»، أو ملاحم داوود، وأساطير بني إسرائيل، ونحوها ممَّا أَجْهَد الباحثين في معرفة بيئاته؛ لأنهم يحرثون في بحور الشِّعريَّة وسراب الخيال. لم يهتدوا إلى شيء، ولن يهتدوا؛ من حيث جهلوا الفارق النوعي بين الطبيعة الشِّعريَّة وغيرها من طبائع النصوص. أضف إلى هذا أن القَصَّاص القديم، أو الإخباري، أو الراوي- وإنْ لم تكن طبيعة نصوصه شِعريَّة- لم يكن بذلك الجغرافي الدقيق، ولا المؤرِّخ الحاذق. فالاضطراب في تحديد المواضع والجهات والأسماء واردٌ عليه جدًّا. وما أكثر نماذج هذا في تراثنا العربي، على سبيل الشاهد. لأن أحدهم إنما يأتينا ناقلًا، لا عالمًا بحقائق ما يقول، ولا باحثًا ميدانيًّا. هذا مع ضحالة المعرفة، وضآلة القُدرات التوثُّقيَّة في تلك الأزمان. فيقع الخلط والوهم، ويظهر ازدواج الحقيقي بالخيالي أو الخرافي. فكيف إذا كان النصّ فوق ذلك كلّه قد صار مأثورًا شعبيًّا، لعبت فيه عشرات الأيدي والأقلام والرؤوس؟!
** ** **
(1) See: Strabo, (1967), THE GEOGRAPHY OF STRABO, (v. 7), With an English Translation By: Horace Leonard Jones, (Cambridge, Massachusetts: Harvard University Press- London: William Heinemann LTD), 16: 2: 28.
(2) See: Aelian, Claudius, (1970), Various History, Rendered into English by: Thomas Stanley (London: Thomas Basset).
(3) انظر: الفصل المعنون بـ«النقلة إلى فلسطين»، من كتابه ((1999)، البحث عن يسوع: قراءة جديدة في الإنجيل، (عمّان: دار الشروق)، 33- 00). (4) انظر: م.ن، 39.
(5) انظر: (1347هـ)، التِّيجان، (حيدر آباد الدكن- الهند: دائرة المعارف العثمانيَّة)، 178- 000. (6) راجع كلامنا حول ذلك في مقالاتنا السابقة.
(7) (1974)، صِفَة جزيرة العرب، تحقيق: محمَّد بن علي الأكوع الحوالي (الرِّياض: دار اليمامة)، 43- 44.
(8) من شواهد ذلك ما أورده (الأصفهاني، (2008)، الأغاني، تحقيق: إحسان عبّاس وإبراهيم السعافين وبكر عباس (بيروت: دار صادر)، 18: 130- 131)، عن الشاعر (ابن مناذر)، الذي قال: «قلتُ: «يَقدَحُ الدَّهرُ في شماريخِ رَضْوَى»، ثم مكثتُ حَوْلًا لا أدري بِمَ أُتَمِّمُه، فسمعتُ قائلًا يقول: هبُّود، قلت: وما هبُّود؟ فقال لي: جُبَيْل في بلادنا، فقلت: «ويَحُطُّ الصُّخورَ من هَبُّودِ». قال إسحاق: وسمع أعرابيٌّ هذا البيت، فقال: ما أجهل قائله بهَبُّود! والله إنها لأُكيمة ما توارى الخارئ، فكيف يحُطّ منها الصخور؟!» وقال له آخر: قلتُ له: «هَبُّود، أي شيء هو؟ فقال: جبل، فقلتُ: سَخِنت عينُك، هَبُّود، والله، بئر باليمامة ماؤها مِلْح لا يَشرب منه شيءٌ خلقَه الله، وقد والله خريتُ فيها مرّات! فلمَّا كان بعد مُدَّة وقفتُ عليه في مسجد البصرة وهو ينشدها، فلمَّا بلغ هذا البيتَ، أنشدها: «ويحُطُّ الصُّخورَ من عَبُّودِ». فقلتُ له: عَبُّود، أيُّ شيءٍ هو ذا؟ فقال: جبل بالشَّام، فلعلَّك، يا ابن [الفاعلة]، خريتَ عليه أيضًا؟! فضحكتُ، ثمَّ قلتُ: لا ما خريتُ عليه ولا رأيتُه، وانصرفتُ عنه وأنا أضحك.» وممّن نبَّه إلى هذه الظاهرة (ابن رشيق، (1955)، العُمدة في صناعة الشِّعر ونقده، تحقيق: محمَّد محيي الدِّين عبد الحميد (مصر: مطبعة السعادة)، 2: 121- 122)، قائلًا: إن «للشُّعراء أسماء تَخِفُّ على ألسنتهم وتَحْلُو في أفواههم، فهُم كثيرًا ما يأتون بها زُورًا».