أ.د عبدالله بن أحمد الفيفي
(22 - أين تقع جَنَّة عَدْن؟)
يذهب (د. كمال الصليبي) إلى أن (جَنَّة عَدْن) - لا سِواها - هي: (جُنَيْنة عدنة)، في (بِيشة)! فنحن، إذن، نعيش، لا في الأرض المباركة فحسب، بل نحن قبل ذلك، ومنذ الأزل، نعيش في جَنَّة عَدْن، أو في ضواحيها، والحمد لله! لكننا لم نشعر بهذه النعمة، وما ذلك إلَّا لخُذلانٍ مُبِيْن! وقد عبَّرَ الصليبي عن أسفه لأن (المستر فِلْبِي) مَرَّ بجَنَّة عَدْن ولم يُدرِك أنه قد دخل الجَنَّة برجليه ومن باب الرَّيَّان! أين أنتَ يا باغي جَنَّة عَدْن ونعيمها؟ عليك ببِيشة! ولعلَّ جُنَيْنة بِيْشَة - إنْ كان اسمها هذا قديمًا - هي جُنَيْنة (خُفاف بن نُدبة)، في قوله:
بِغُرِّ الثَّنايا خَيَّفَ الظَّلْمُ نَبتَهُ
وسُنَّةَ رِئمٍ بالجُنَيْنَةِ مُونِقِ (1)
لأن المواضع التي ذكرها خُفاف في قصيدته، مثل (نجران)، و(رهوة)، و(جلذان)، و(لِيَّة)، و(وَجّ)، ترشِّح ذلك أكثر من غيره، وإنْ على طريقة الصليبي في الاستدلال! مع أن (الحموي)(2) يزعم أن تلك الجُنَيْنَة من منازل (عقيق المدينة المنوَّرة).. ونحن نزعم - على كلّ حال - أن الشعراء يقولون ما لا يعقلون!.. والشاهد أن الجنائن، بهذا الاسم، كثيرة في جزيرة العرب، ولكن ما يدرينا أن أسماءها كانت موجودةً مذ أكثر من ألف سنة قبل الميلاد؟! ونضيف أنّ في جبال (فَيْفاء) كذلك مكانًا باسم (عدن)، في جبل (آل عبدل).. ولعلَّه أجمل من عدنة بِيشة، وأجدر أن يُفترَض جَنَّةَ عَدْن!.. فإذا كنَّا سنبني تاريخًا - واقعيًّا وميتافيزيقيًّا - على وجود الأسماء، فحدِّث ولا حرج! والعَدَن: شجر، وصفَه (فِلْبِي) في رحلته إلى فَيْفاء بقوله: إنه «ذو زهرٍ أحمر ورديّ غريب المظهر، وهو مصدر لبخورٍ زكيٍّ، ينمو إلى ارتفاع يصل ما بين ستة أقدام إلى اثني عشر قَدَمًا، مستدقًّا تدريجيًّا من لدن قاعدته الدرنيَّة المنتفخة إلى أطرافه العُليا.»(3) وشجر العَدَن من الأشجار المنتشرة في جنوب شِبه الجزيرة عمومًا، وبالاسم نفسه.. وله استعمالات طبيَّة.
ومهما يكن، فلا غرابة في ذاك النهج العجائبي ممَّن دأب على ضَرْب العبريَّة بالعربيَّة في خلَّاط تركيب الأسماء.. بل دأب على تلفيقها، واختلاقها - كما رأينا مرارًا - كيما يفرض أضحوكةً نظريَّة، بَيَّتها ثمَّ جعل يصطاد لها فَراش القرائن والحروف من هنا وهناك، وإنْ بأوهى الأسباب.. وقديمًا نبَّه البلدانيُّون العرب إلى المؤتلِف لفظًا المختلِف صِقْعًا من أسماء الديار، لَفْتًا إلى كثرة تشابُه الأسماء على اختلاف المواضع، وأنها مَضِلَّة لمن اتَّخذَ بضاعته الحروف في تحديد المَواطِن والتواريخ.(4).. وإذا كان مِثل هذا التهوُّر المُريع يقع من أستاذٍ جامعيٍّ في التاريخ وفي عِلْم الآثار، بل كان رئيس قسمٍ جامعيٍّ في التاريخ، ومدير معهدٍ ملكيٍّ للبحوث التاريخيَّة، فكيف بغيره؟! على أن الملهاة الكبرى تظهر حين يوظَّف التلبيس التاريخي لأغراض (إديو - سياسيَّة)، مهما تكن تلك الأغراض!
أمَّا ما أداره صاحبنا من جَدَلٍ في فصلٍ بعنوان «تهامة في التوراة»، من كتابه «التوراة جاءت من جزيرة العرب»؛ ليُثبت أن الإشارة إلى «تهوم» في (التوراة) تعني «تهامة» في الجزيرة تحديدًا، فليس بشيءٍ، ولا ينمّ على معرفة باللغة. ذلك أن كلّ منخفضٍ من الأرض يوصف بأنه «تِهامة»، سواء أكان في الجزيرة، أم في (فلسطين) أم في (المغرب)، أو حيثما كان.. فهذا وصفٌ لطبيعة الأرض، وليس عَلَمًا على مكان بعينه، لا غير.. وأصل الكلمة مشتقٌّ من «تَهِمَ»، أي تغيَّر، والتَّهَمُ: شِدَّة الحَرِّ وسكونُ الرِّيح. قيل سُمّيت تِهامة بذلك لأَنها سَفُلتْ فَخَبُث ريحُها.. ومن جهة أخرى، يشير أستاذنا المرحوم (الدكتور حسن ظاظا) (5) إلى أن الاسم يَمُتُّ بصِلَةٍ لُغويَّةٍ إلى الآلهة في الوثنيَّة العراقيَّة القديمة: (تِيامَت)، وكانوا يعتقدون أنها المهيمنة على السواحل والشطوط ومصائد السمك.. والصليبي، كالمعتاد، لم يقدِّم أيّ دليلٍ عِلْميٍّ أو لغويٍّ، لا بشأن تِهامة التوراتيَّة، ولا بما يدعم فرضيَّة بحثه بصفةٍ عامَّة.
ومِثل ذلك زعمُه أن (إسرائيل) تعني «سراة الله»، ومن ثَمَّ فهي تشير إلى جبال (السَّراة)! ذلك أن كلمة السَّراة في الأصل وصفٌ كذلك، وليست اسمًا؛ فكلّ مرتفعٍ سَراة.. ولذا فالسَّرْوُ: المُرُوْءَة والشَّرَف. مأْخوذٌ من سَرَاةِ كلِّ شيء، وهو ما ارْتَفَعَ منه وعَلا.. وجمعُ السَّراةِ سَرَواتٌ.. والسَّرْوُ: ما ارْتَفَع عن موضع السَّيلْ وانْحَدَر عن غلظ الجبَل.. وفي حديث (عمر، رضي الله عنه): «لئِنْ بَقِيتُ إلى قابِلٍ لَيَأْتِيَنَّ الراعِيَ بِسَرْوِ حِمْيَر حَقُّه لم يَعْرَقْ جَبِينُهُ فيه». وفي رواية: «لَيَأْتِيَنَّ الراعِيَ بسَروَات حِمْيَر».. وسَراةُ اليَمَن: معروفة.(6) ونحن لو استعرضنا الشِّعر الجاهلي كلّه، لما كدنا نعثر على أن شعراء العرب كانوا يسمُّون جبال (الحجاز): «السَّراة»، ولا «السَّروات». غير أننا في العصر الأموي نعثر على قول (العَرْجِي، - نحو120هـ = 738م) (7):
لَو أَنَّ ما بِيَ مِن حُبِّكُم عُدِلَتْ
بِهِ جِبالُ السَّراةِ ما اعتَدَلا
ثمَّ في العصر العباسي قال (التِّهامي، - 416هـ = 1025م)(8):
أَيا حَبَّذا أرض السَّراةِ وحَبَّذا
تَهائمها مِن أَجلِها ونُجودُها
وقال (المعري، - 449هـ = 1057م)(9)، يصف درعًا:
قَلَعِيَّةٌ وكأنَّ مَشْتَى الأَزْدِ في
أرضِ السَّراةِ سَخَا بها لِقِلاعِها
فلقد كانوا يسمُّون تلك الجبال: (الحجاز) غالبًا. على أن السَّروات كثيرة في الجبال وغير الجبال. فكلّ ظَهر شيءٍ: سَراته. كما في قول (عَبيد بن الأبرص، - 554م)(10):
وأَميرِ خَيلٍ قَد عَصَيتُ بِنَهدَةٍ
جَرداءَ خاظِيَةِ السَّراةِ جَلوسِ
وإنما قيل لأعلى الجبل سَراة كما قيل لظهر الدابّة سَراة.. ثمَّ ترسَّخ الاسم وانتشر في القرون المتأخرة، واشتهر في العصر الأخير اصطلاحُ (جبال السَّروات).. وهناك: (سَراة الأزد)، و(سَراة ثقيف)، و(سَراة حِمْيَر)، و(سَراة عدوان)، و(سَراة فَهْم)، و(سَراة اليَمَن). من حيث إنها كلمة عربيَّة صميمة، اشتُقَّ منها وصف تلك الجبال، ولا علاقة لها باسم إسرائيل.(11) ومن الشواهد الإضافيَّة على أن كلمة «سَراة» عربيَّة صميمة، ولا علاقة لها باسم إسرائيل، أننا نجدها في النقوش اليَمَنيَّة القديمة، إشارةً إلى (السَّراة). ذلك أن «سهرتم» و»سهرتن» كان يُشار بهما في تلك النقوش إلى: (منطقة السَّراة)، أو (سُكَّان السَّراة)، كما يُرجِّح قارئو تلك النقوش.(12) بيد أن تخيُّلات الصليبي وتلفيقاته لا تحدّها حدود، لا تاريخيَّة ولا جغرافيَّة ولا لغويَّة.. وبات كلّ اسم فيه الحروف (ي س ر) في جزيرة العرب على صِلةٍ لديه بإسرائيل.. ومن ذلك عشيرة اسمها: (آل سلامة)! وباتت (أل التعريف)، والتكنية بـ(آل)، تعنيان لديه (إيل) أو (إل؟ ه). وعليه فكل أسماء القبائل والعشائر والأفخاذ والأُسَر المصدَّرة بأداة التكنية (آل) هي لديه أسماء آلهة! حتى قرية (سُرَيْوِيْل) في (نجد)، لم يُعفِها من الاستلحاق والتأميم التوراتي، فلم تَعُد تصغير «سروال»، بل هي - كما يرى - إشارة إلى: «إسرائيل»!(13)
وهكذا أصبحت إسرائيل وأشباح تاريخها يتراءيان إلى الرجل من كلّ شيء، نتيجة اللوثة التأويليَّة التي أصابته. هذا فضلًا عن أسماء الأماكن التوراتيَّة التي ظلّ يربطها بأسماء أماكن واضحة الحدوث. ذلك أنك لو بحثت في كتب البلدان الإسلامية عمّا ينسبه إلى أسماء توراتيَّة ما عثرت على كثيرٍ منها، أو لوجدت أسماء كانت لها قد اندرست اليوم.. فأيّ باحثٍ، أو محققٍ، هذا الذي يكتفي بشَبَهٍ بين اسمٍ اليوم واسمٍ توراتي ليفترض علاقة تاريخيَّة بينهما، ثمّ يقيم على ذلك نظريَّة تاريخيَّة؟!.. بل أيّ باحثٍ، أو محققٍ، هذا الذي يربط اسم مكانٍ تاريخيٍّ باسم فخذٍ من قبيلةٍ نُسِبَ المنتمون إليه إلى جَدِّهم، الذي عاش منذ عقود، أو منذ بضعة قرون على الأكثر، ليقول لك مثلًا: إن (أورشليم) هي: (آل شريم) في (النماص)؟! إن تخريفةً صليبيَّةً واحدةً كهذه كافية لتشطب على عمل الرجل العِلْمي مصداقيًّا، اللهم إلَّا لدى مَن كان ذا موهبةٍ في تصديق ما يتوهَّم من تُـرُّهات.
هذا، ولئن صحَّت القاعدة الذاهبة إلى أنه «لا اجتهاد مع النصّ»، فلا مراء في أن ما ناقض العقل واللغة والتاريخ والمنهج لا يصحّ أن يُعَدَّ من الاجتهاد في شيءٍ، بحالٍ من الأحوال، بل هو الاجتراء على المَخْرَقَة والاستخفاف بعقول الناس.
** ** **
(1) الأصمعي، (2005)، الأصمعيَّات، تحقيق: محمَّد نبيل الطريفي (بيروت: دار صادر)، 24/ 4.
(2) انظر: الحموي، ياقوت، (1965)، كتاب معجم البلدان، (طهران: مكتبة الأسدي)، (الجُنينة).
(3) (Philby, H. ST. J. B, (1952), Arabian Highlands, (New York: Cornell University Press), 495.
(4) من ذلك مثلًا كتاب (ياقوت الحموي، - 626هـ = 1229م): «المشترك وضعًا والمفترق صقعًا». وصولًا إلى كتاب (محمّد بن عبد الله بن بليهد، - 1377هـ = 1957م): «ما تقارب سماعه وتباينت أمكنته وبِقاعه».
(5) انظر: (1990)، الساميُّون ولُغاتهم: تعريفٌ بالقرابات اللغويَّة والحضاريَّة عند العرب، (دمشق: دار القلم - بيروت: الدار الشاميَّة)، 16.
(6) انظر: ابن منظور، لسان العرب المحيط، (سرا).
(7) (1998)، ديوان العرجي، تحقيق: سجيع جميل الجبيلي (بيروت: دار صادر)، 288 - 21.
(8) (1982)، ديوان التهامي، تحقيق: محمّد بن عبد الرحمن الربيع (الرياض: مكتبة المعارف)، 179 - 13.
(9) (1986)، شروح سَقْط الزَّنْد، تحقيق: مصطفى السّقّا وآخرين (القاهرة: الهيئة المِصْريَّة العامّة للكتاب)، 1988 - 31.
(10) (1994)، ديوان عَبيد بن الأبرص، شرح: أشرف أحمد عدرة (بيروت: دار الكتاب العربي)، 69 - 11.
(11) قيل في معنى «إسرائيل أكثر من تفسير.. من أطرفها ربط ذلك بالقِصَّة التوراتيَّة حول المصارعة «الحُرَّة» التي جرت بين يعقوب والرب، أو مع ملاك الرب، ليلةً كاملةً إلى الفجر؛ فكان تفوُّق يعقوب سببًا في استحقاقه لقب (إسرائيل)! وكأن معنى هذا اللقب: «يصارع - يصرع الله»! (انظر: العهد القديم، سِفر التكوين، الإصحاح 32: 24- 30).. والحقّ أن ذلك الإصحاح غير صريح في ذلك، بل نصّه: «وصَارَعَهُ إِنْسَانٌ حَتَّى طُلُوعِ الفَجْرِ».. ومن هذا يبدو أن ادّعاء تلك المصارعة مع الربّ محض تأوّلٍ طائفيٍّ ساخر، يتَّكئ على عبارة يعقوب في آخر هذه الحكاية: «فَدَعَا يَعْقُوبُ اسْمَ الـمَكَانِ «فَنِيئِيلَ» قَائِلًا: «لأَنِّي نَظَرْتُ اللهَ وَجْهًا لِوَجْهٍ، ونُجِّيَتْ نَفْسِي».»وهي لا تعني بالضرورة ذلك المعنى. غير أن النصارى يتقبّلون التأويل الشائع للنصّ.. وهم يفسِّرونه على أن الربّ إنما أراد تقوية معنويَّات يعقوب، كما يفعل أبٌ مع طفله! (انظر مثلًا على «الإنترنت»: القمص يعقوب، حلمي، كتاب النقد الكتابي: مدارس النقد والتشكيك والرد عليها:
http://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/517.html).
(12) انظر: بافقيه، محمَّد عبد القادر، ألفريد بيستون، كريستان روبان، محمود الغول، (1985)، مختارات من النقوش اليَمَنيَّة، (تونس: المنظمة العربيَّة للتربية والثقافة والعلوم)، 437.
(13) انظر: الصليبي، (1997)، التوراة جاءت من جزيرة العرب، ترجمة: عفيف الرزّاز (بيروت: مؤسّسة الأبحاث العربيّة)، 196- 197.