أ.د عبدالله بن أحمد الفيفي
(25 - آلهة بلا حدود!)
استمرّ الصليبي في كتبه على النهج نفسه من عدم التثبّت ممّا يبني عليه استنتاجاته. يتجلَّى لك هذا في كتابه بعنوان «خفايا التوراة وأسرار شعب إسرائيل»، الذي جاء بمنزلة استثمار لكتابه الأول «التوراة جاءت من جزيرة العرب» لتفسير بعض خفايا التوراة وأسرار إسرائيل. وسنتوقف من هذا الكتاب على نماذج مقتضبة مما يَزُجُّه من معلومات مغلوطة، كان حريًّا بأن يتحقَّق منها، ولا سيما بعد مضيّ قرابة عشرين سنة على كتابه الأوّل، وظهور بعض التنبيهات والنقود على ما ساقه في ذلك الكتاب، وتطوّر وسائط الاتصال والاطِّلاع والتحقّق، أكثر ممّا كان متاحًا من قبل.
لقد قال، مثلاً - وهو يفسِّر بعض ما ورد في سِفر التكوين من قِصصٍ ومفردات حول خلق آدم وإخراجه من الجنَّة، التي هي لديه، كما سبق، في (بِيشة)، والتي تتمركز فيها وحولها الدنيا والآخرة-:
«أضف إلى هذا أن هناك قرية في وادي بيشة بالذات اسمها آل حيّة (ءل حيه)، وهو اسم حوّاء (حوة) ليس كامرأة عادية، بل كإلهة، ناهيك عن قرية في جبل فيفا، بجنوب عسير، اسمها آل سلعي تحمل اسم «الضلع» (صلعه) كإله، وإن بقلب الصاد العبرية إلى السين العربية في اللفظ (...) ووجود قرية آل سلعي، والظاهر أن الاسم كان في الأصل آل صلعي (صلع)، أي «إله الضلع»، مما يشير إلى أن هذا «الضلع» كان من المعبودات الثانوية المعروفة في وقت ما في جزيرة العرب.»!(1)
أجل، لم يكن ينقص جزيرة العرب، على كثرة آلهتها، إلاّ الإله (صلعه)! وأؤكِّد لك، أيها القارئ الكريم، أن ليس في جبال (فَيْفاء) قرية اسمها (آل سلعي) على الإطلاق. بل ليست في فَيْفاء قُرى بالمعنى الذي فهمه الصليبي البتة، بل هي بيوت عاديّة لعوائل، اصطلحوا على تسمية الكبير منها، وذي الطراز العمراني المخصوص: «قرية». أمّا (آل اِمْسَلَعِيّ/ آل السَّلَعِيّ)، فعشيرة تعود إلى بطن من قبيلة (آل خُساف)، اسمه (آل أحمد بن شريف)، وليس ذلك باسم مكان أو قرية أو حتى بيت. وإنما قد يقال «بيت آل امْسَلَعِي»، نسبة إلى هؤلاء الناس، الذين ينتسبون إلى جدّهم (يحيى بن السَّلَعي). ثمّ إن (آل السَّلَعي) هؤلاء أنفسهم ليسوا من أهل ذلك المكان الذي سُمِّي باسمهم منذ قِدَمٍ بعيدٍ جدًّا في الزمان، بل حلّوا ذلك البيت وسُمِّي باسمهم. ومن ثمَّ فلعلّ هذا الاسم لم يكن له وجود هناك قبل أربعة قرون، إذا استظهرنا غاية الاستظهار. ويُروى أن هؤلاء القوم إنما جاؤوا إلى فَيْفاء من (قطابر)(2)، في (اليَمَن)، في زمنٍ متأخِّر- وربما كانوا من أصلٍ هاشميٍّ- فاندمجوا في بطن القبيلة، المشار إليه.(3) ولقد أدركتُ أنا شخصيًّا ابن حفيد جدِّهم، الذي سُمِّي المكان باسمه. فلا يعود وجود هذا الاسم، ولا وجود المنتمين إليه، إلى بداية الخليقة، أو قِصَّة الخليقة، كما توهَّم الصليبي، بل بالأحرى كما تجاهل مقتضيات البحث العِلْمي، من ضرورة معرفة الحقائق من أهلها قبل أن يهرف بما لا يعرف، فيُسطِّر في كتابه ادّعاءات كهذه، ذاهبًا إلى أن الاسم اسم قرية، وأنها قديمة في جبال فَيْفاء قِدَم التاريخ. ولئن كنّا لا نعلم أصل تسمية السَّلَعِي بهذا الاسم، فإن من المعروف- على كل حال- أن السَّلَع ضرب من النبات، ولعلّ لاسم الرجل علاقة به. ذلك من نحو ما اقترحناه حول (جنينة عدنة)، في (بِيْشة)، واحتمال علاقة التسمية بشجر (العَدَن)، أو ما قلناه حول قرية الغلف، في (اللِّيث)، واحتمال علاقة التسمية بشجر (الغلف). ذلك أن السَّلَع: نبات، وقيل شجر مُرّ، كانت العرب في جاهليّتها تأْخُذُ حَطَبَه وحَطَب العُشَر في المَجاعاتِ وقُحُوط القَطْر فَتُوقِرُ ظهور البقر منها، وقيل: يُعَلِّقون ذلك في أَذنابها، ثم تُلْعج النار فيها؛ يَسْتَمْطِرون بلهب النار المشبه بِسَنى البرق. وقيل: يُضْرِمُون فيها النار وهم يُصَعِّدُونها في جبلٍ، فيُمْطَرون بذلك، حسب توهماتهم. وقال (أبو حنيفة الدَّينَري): السَّلَعُ سمّ كله، وله ورقة صُفَيْراءُ شاكّة كأنَّ شوكها زَغَبٌ، وهو بَقْلَة تنفرش كأنها راحة الكفّ. قال: «وأخبرني أَعرابيٌّ من أهل السَّراة أن السَّلَعَ شجر مثل السَّنَعْبُق إلاّ أنه يرتقي حِبالاً خضرًا لا ورق لها، ولكن لها قُضْبان تلتف على الغصون وتَتَشَبَّكُ، وله ثمر مثل عناقيد العنب صغار، فإِذا أَينع أسود فتأكله القُرود فقط.» وقد كان الناس يأكلون السَّلع أيضاً في سنين الجوع. والسَّلَعُ كذلك: البَرَصُ. والسَّلَعُ: آثار النار بالجسَد.(4) وبذا فلو كنتُ من هُواة الإبحار وراء الكلمات، كالصليبي، لذهبت في هذا المعنى للسَّلَع كلّ مذهب؛ وبخاصّة لأن بيت آل السَّلَعي أيضاً اسمه: (جِحْم)!
ومثل ذلك قول المؤلِّف حول قرية (آل هتيلة) في وادي بِيشة، ذاهبًا إلى أن أصل الاسم «هطيلة».(5) وليس في حاجة إلى ذلك، فلو سألني لأعلمته أن إلى جوار بيت (جِحْم) لآل السَّلَعي، الذين ذكرهم آنفًا، بيت جدِّي (علي بن سالم آل حالية)، واسم البيت: «الهُطْل». وبذا يمكن نقل مسرح الأحداث إلى تلك المنحدرات في جبال فَيْفاء، ما دامت القرائن والأدلّة لا تعدو أسماء أماكن تشابه مفردات التوراة! فتلك أسماء في وادي بِيشة، ومثلها لدينا، ولدى غيرنا منها الكثير.
أمَّا ترديده القول بأن أداة التكنية العربيَّة (آل) تعني: «إله»، فإن من المعروف أن كلّ قبيلة هناك أو فخذ من قبيلة، كما في أنساب العرب جميعًا، يصدَّر اسمها غالبًا بأداة التكنية (آل)، معزوِّين إلى جَدٍّ لهم أو جَدَّة. فكاتب هذه السطور، على سبيل المثال، هو من (آل حالية)، و(آل حالية) هؤلاء- مع (آل السَّلَعي) الذين نسبهم الصليبي إلى بدء الخليقة- هم من قبيلة (آل خُساف)، وتعود هذه القبيلة إلى عمارة (آل المَوْدَحِيّ)، من (آل المُغامِر)، من (آل عُبَيْد بن أحمد)، الذي يعود نسبه إلى رجلٍ اسمه (هانئ)، من نسل (خَولان بن عمرو بن الحاف بن قُضاعة بن مالك بن عمرو بن مُرَّة بن زيد بن مالك بن حِمْيَر بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان). فانظر هنا إلى الفرع المتأخِّر جدًّا أين تقفز به توهُّمات الصليبي- لمجرّد تشابُه حروفه مع ما أراد أن يؤوّل إليه كلمة «الضلع» (صلعه)، الذي خُلِقت منه أُمُّنا حواء- فإذا هو يعزو وجوده إلى نشأة الخليقة والأساطير؟!
إنه لا يتورَّع عن التماس أي اسمٍ ليربط به خيالاته، مهما كان حاله أو تاريخه. وكما جعل في كتابه الأول «التوراة جاءت من جزيرة العرب» كلَّ تاريخ بني إسرائيل يعود إلى جنوب غرب الجزيرة العربيَّة- لا يحمل من دليلٍ على ذلك، لكنها شُبّهت له ظواهرُ أسماء بأسماء- فقد جعل في كتابه «خفايا التوراة وأسرار شعب إسرائيل» كلَّ اسمٍ يُحيل إلى اسم إله من الآلهة، لا يحمل من دليلٍ على ذلك سوى ظواهر شَبَهٍ بين الأسماء كذلك، مع ترائي الإحالة إلى آلهةٍ وراء كلّ حَرْفَي ألف ولام. ولئن صحّ ذلك، فلدينا في فَيْفاء، إذن، أكثر من آلهة (الهند) بكثير! إن لدينا- كما لدى غيرنا- مئات الآلهة، بل آلافها، ما دامت كلّ كلمة (آل) تُحيل إلى اسم (إله) قديم. بل إن الصليبي يرى أحيانًا أنه يحيل إلى اسم الإله مجرد (الـ التعريف) من الاسم المقترن به.
** ** **
(1) الصليبي، (2006)، خفايا التوراة وأسرار شعب إسرائيل، (بيروت: دار الساقي)، 31- 32.
(2) تقع (قطابر) في قلب (بني جُماعة)، في (بني مُنَبِّه)، شمال غرب (صَعْدَة) بنحو 70 كيلًا.
(3) انظر: الفَيْفي، علي بن قاسم، فَيْفاء بين الأمس واليوم، (كتاب إلكتروني على شبكة «الإنترنت»)، 228.
(4) انظر: ابن منظور، لسان العرب، (سلع).
(5) انظر: الصليبي، م.ن، 33.