أ.د عبدالله بن أحمد الفيفي
(24 - المؤتلِفُ لفظًا المختلِفُ أرضًا.. )وحقائق التاريخ!)
ربما توهَّم قارئ كُتب (د. كمال الصليبي) أن استنتاجات المؤلِّف معقولة، وأنها مقنعة حين يذكر الأماكن المتجاورة في (التوراة) فيجد إزاءها نظائر متجاورة في جنوب غرب الجزيرة العربيَّة. فإذن النصّ التوراتي يتحدَّث عن تلك الأماكن. بيد أن هذا ليس كذلك بالضرورة، وليس بدليل على ما استُدلّ به عليه بإطلاق؛ فكما أن أسماء الأماكن تتشابه في أماكن متعدِّدة، فإنها كذلك قد تتجاور أسماء متشابهة بالترتيب نفسه في بُقعتَين جغرافيَّتَين. ولنأخذ مثالًا إضافيًّا هنا، إلى ما سبق من أمثلة:
أصرّ المؤلِّف على أن ثلاث كلمات واردة في (سِفر صموئيل الثاني، 5: 8)، وهي «صنور، وفسحيم، وعوريم»، هي أسماء أماكن، مخالفًا علماء التوراة ومترجميها الذين لم يَعُدُّوها كذلك، بل الكلمة الأُولى: اسم مكان، والثانية والثالثة بمعنى: «العرجان»، و»العميان». ثمَّ طَفِق يفتِّش في «المعجم الجغرافي للبلاد العربيَّة السعوديَّة» لإلصاق هذه الأسماء الثلاثة بأماكن في جنوب غرب الجزيرة العربيَّة. وبعد لأيٍ زعمَ أن: (صنور) هي: قرية (الصرّان)، في (هَرُوْب)، و(فسحيم): قرية تُسمى (صحيف)، في جبل (الحَشَر)، و(عوريم): جبل (عوراء)، في هَرُوْب. (1) هكذا قال. أ فلا توجد مثل هذه الأسماء في أماكن أخرى؟ بلى، نستطيع أن نجد مثل تلك الأسماء الثلاثة، وربما على نحوٍ أوضح، في مكانٍ واحدٍ، هو جبال (فَيْفاء)، دون أن نبتعد إلى جهات أخرى، فنقول، مثلًا: (عوريم: أحد ثلاثة مواضع يُسمّى كلّ واحدٍ منها: امْعَرام/ العَرام). و(فسحيم: أحد مكانَين إمَّا اِمْصفيحة/ الصَّفيحة، أو اِمْصافح/ الصافح). أمَّا (صنور: فربما بُقعة اِمْسَنْدَر/ السَّنْدَر، أو لعلَّها نَيْد اِمْصَدر/ الصَّدر، وحدث التحوير والتقديم والتأخير في الأصوات، وهذا أمرٌ معتادٌ متوقّع). وهكذا يفعل الصليبي عادةً في عزو الأماكن التوراتيَّة إلى الجزيرة العربيَّة. فها هي تي أسماء ثلاثة مواضع أشبه بالأسماء التوراتيَّة، وهي بألفاظها إلى اليوم، في أماكن متجاورة من المنطقة نفسها في (جبال فَيْفاء)، ولم تضطرنا للقفز من (هَرُوْب) إلى جبال (الحَشَر)، التماسًا للاسم الثاني. وعلى ذلك قِس. ما يدلّ على أن هذا منهاجٌ سهلٌ، ولا يُثبت شيئًا في حدِّ ذاته، فضلًا عن أن يُثبت ما يقلب التاريخ وجغرافيَّته رأسًا على عقب.
ولنضرب مثالًا آخر أوضح. فلو كان ما أجراه الصليبي من مقارنات دليلًا عِلْميًّا، من أجل وجوده أسماء في الجزيرة العربيَّة مشابهة لأسماء توراتيَّة- إضافةً إلى وجودها متَّسقة في الترتيب تقريبًا، ومتجاورة في مواضع من مناطق متدانية- لو كان ذلك دليلًا، لما وجدنا في جبال (فَيْفاء) أماكن بأسماء كهذه مثلًا: (القعبة، الكعبة، الصفا، المروة، الحَرَم)! ولما وجدنا هناك أماكن بأسماء كهذه: (مَنَفة، المعادي، المحلَّة، القهر، مصر)! ونحن لا نعلم، على وجه التحديد، متى سُمِّيت تلك المواضع بتلك الأسماء؟ ولماذا؟ ويبدو أن هذه تقاليد قديمة، تحدث إمَّا لأسباب دِينيَّة، أو حنينًا إلى مَواطن سابقة، أو لمجرد الطرافة. فإذا سُمِّي مكان: (الصفا)، جاء من يُسمِّي مكانًا مقابلًا: (المروة)، وهلمّ جرًّا. وبالقياس إلى استقراء الصليبي، فلو أن أسماء الأماكن الأصليَّة القديمة المشهورة اندثرت، أو وقع حولها الجدال، لربما جاء صليبيٌّ في المستقبل ليؤلِّف كتابًا يقول فيه: إن (الكعبة، والصفا، والمروة، والحَرَم) ليس مكانها في (مكَّة المكرَّمة)، بل في جبال (فَيْفاء)! لماذا، يا مولانا؟ لأنها موجودة بأسمائها إلى اليوم هناك، ومتجاورة على نحوٍ مدهشٍ في بقعةٍ طبغرافيَّةٍ واحدة. وسوف يقول أيضًا: إن (مِصْر) التاريخيَّة ليست في قارة (أفريقيا)! لماذا، يا مولانا؟ لأن (مَنَفة، والمعادي، والمحلَّة، والقهر (القاهرة)، ومصر) كلّها نجدها بأسمائها إلى اليوم متجاورة على نحوٍ مدهشٍ في بقعةٍ طبغرافيَّةٍ واحدة. إذن، «لا بُدّ»، و»لا شكّ» و»لا ريب»، أنها هناك، وأن المؤرِّخين السابقين واهمون، والنصوص التي ذكرتها في أماكن أخرى قد حرَّفت فيها وخلطت! ما يعني أن هذه الطريقة في تسمية المواضع والديار محتملةٌ جدًّا، وهي تقليدٌ قديم، نَبَّه إليه البلدانيّون العرب، وألَّفوا حوله الكتب، كما تقدَّم. (2) ومن هنا لا تصحّ هذه الظاهرة دليلًا على تحديد المواطن التاريخيَّة، بحالٍ من الأحوال، دونما شواهد آثاريَّة قاطعة، يمكن الركون إليها عِلْميًّا.
وعليه، فإن تشابُه الأسماء، بل حتى تطابقها، وتراتبها متجاورةً بالطريقة نفسها الواردة في روايةٍ ما، لا يعني أن الرواية تُشير إلى تلك الأماكن بالضرورة، ولا يصلح ذلك مستنَدًا يُستدلّ به، في ذاته، على حقائق الجغرافيا والتاريخ.
ثمّ قال، مستنتجًا بعد تحليلاته السابقة:
إنه «في ضوء ما قيل حتى الآن [يعني ما قاله هو حتى الآن!] يجب البحث عن «أورشليم» التوراتيَّة... في منطقة ما إلى الشمال من قعوة الصيان (وهي «جبل صهيون» في رجال ألمع)»!(3)
وواضح أنه قد تعِب في البحث عن اسمٍ يُلصق به اسم (أورشليم). لكنه في الأخير لم يجد إلَّا اسم فخذٍ قَبَليٍّ يكنى بـ(آل شريم) في (النماص). فلم يفوِّت الفرصة، فقال:
«والأرجح هو أن «أورشليم» هذه... يمكن أن يعثر عليها فورًا على مسافة حوالي 35 كيلو مترًا إلى الشمال من بلدة النماص في سراة عسير، شمال أبها. إنها القرية التي تسمى اليوم آل شريم (ءل شريم)، التي يحتوي اسمها على بعض التحريف التعريبي عن الأصل يورشليم!»(4)
تُرى من (آل شريم) هؤلاء؟
لقد آن أن يعرف القارئ هؤلاء الذين ينسب إليهم الصليبيُّ أورشليم.
إنهم فخذٌ قَبَليٌّ متأخِّر الزمن. وليس آل شريم باسم مكان، لكن القرية تُسمّى باسم أهلها. وهم من (آل عازب)، وآل عازب من قبيلة (آل لَصْلَع)، وآل لَصْلَع من قبائل (بني سفار)، وبنو سفار من قبائل (المجنب)، وهي من قبائل (ابن الأحمر/ بلَّحمر)، من قبائل رجال (الحَجْر).(5)
وبذا فإنهم فرعٌ من فرعٍ من فرعٍ من فرعٍ من فرعٍ من بلَّحمر. على حين أعاد الصليبي وجودهم إلى أكثر من ثلاثة آلاف سنة، وذهب إلى أنهم: «أورشليم»!
وهكذا يفعل حين يجد اسم قبيلةٍ أو عشيرةٍ تتفق بعض حروفه مع اسم مكانٍ توراتيٍّ، زاعمًا أنه اسم مكان، ثمَّ يعزوه إلى آلاف السنين.
ولله في خلقه شؤون!
** ** **
(1) انظر: الصليبي، (1997)، التوراة جاءت من جزيرة العرب، ترجمة: عفيف الرزّاز (بيروت: مؤسّسة الأبحاث العربيّة)، 181.
(2) راجع إشارتنا في مقال سابق إلى كتاب (ياقوت الحموي، -626هـ= 1229م): «المشترك وضعًا والمفترق صقعًا». وكتاب (محمّد بن عبدالله بن بليهد، -1377هـ= 1957م): «ما تقارب سماعه وتباينت أمكنته وبِقاعه».
(3) م.ن، 183.
وراجع ما قيل في مقالات سابقة حول اسم (الصيّان)، وأنه اسم إنسان، وإنما سُمِّي المكان باسمه. وقد عاش في العصور المتأخّرة، ولا علاقة له لا بصهيون ولا بغير صهيون. وتُعَدّ عشيرته فخذًا من (رجال ألمع).
(4) م.ن.
(5) حول (بلَّحمر)، انظر مثلًا: العمروي، عمر غرامة، (97- 1398هـ)، المعجم الجغرافي للبلاد العربيَّة السعوديَّة، الجزء الثالث، بلاد رجال الحَجْر، (الرِّياض: دار اليمامة)، 52- 57.
(*) تصحيح: في المقال السابق- وعنوانه «اليهود وخِتان بني إسرائيل»، المنشور في عدد «الجزيرة» ليوم السبت 16 شوّال 1436هـ، ص21- جاءت عبارة: «حتى إنه ليصحّ أن يسمَّى كتابه...»، وعبارة: «حتى إنه إذا عجز عن العثور على أحرفٍ...». وقد لوحظ أن همزة «إن» المكسورة قفزت لتحطّ فوق الألف، في الموضعين من المقال المنشور في «الجزيرة»! ولا أعلم كيف حدث ذلك، ولم أكتبها كذلك؟!