أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: مِن الغباء المحض الذي يقع فيه الْـمُلْحِدُون غفلةً أو تغافلاً: فرْضُ التلازم بين العلم بالموجود وبين العلم بكيفيته.. وفطرةُ العقل والخِبْرةُ الحسيَّة العلمية: ترفض هذا التلازمَ، وتُقرُّ بأنَّ العلمَ بكيفية الشَّيْىءِ علمٌ بوجوده، ثمَّ تَسْعَى إلى العلمِ بكيفيَّته..
كما أنَّ الجهلَ بالكيفية لا يقتضي الجهلَ بالوجود؛ بل قد يحصل العلمُ بوجود الشَّيْىءِ ويقصر عن العلم بكيفيته.. وهكذا ما خَفِيَ علينا معرفةُ كيْفيَّتِه، أو العلمِ بها، وقد عَلِمْنا بوجوده: قد نعرف كيفيته بالوصف، وقد لا نعرفها مطلقاً؛ فيكونُ عِلْمُنا إيماناً بالواقعِ الْـمُغيَّبِ.. وقد نعلم الكيفية بالحسِّ فنكون مؤمنين بالواقع المشهود.. والعلم بالكيفية: ليس هو المميِّزَ الحقيقةَ من الخرافة؛ لأن الحقيقة قد تكون في قبضة الحس البشري المحدود، وقد تكون مغيَّبةً عنه.
قال أبو عبدالرحمن: الإيمانُ بالخرافة ينحصر في الإيمان بما عُلِمَ امتناعُ وجوده؛ وإنما كان خرافةً؛ لأنه أَلْـغَى العِلْمَ، وعطَّلَ العقلَ.. وإنكارُ الحقيقة جهلٌ ليس بأقلَّ خطراً من الإيمان بالخرافة، ويكون إنكارُ الحقيقة بإحالة ما عُلِمَ -وعلِمَ الإنسانُ وجودَه-، وقُطِع أحدُ الاحتمالين (امتناعُ وجودِهِ، وحَتْمِيَّةُ وجوِده)؛ لأنه مُحْتَمَلٌ إمكانُ أحدِ الطَّرَفين (أيْ إمْكانِه، وامْتِناعه)؛ فصاحبُ الخرافة مُدَّعٍ ما ليس في الواقع، والملحِدُ منكرٌ ما هو ممكنٌ في الواقع؛ وكلاهما جهل وعناد.. يكون صاحب الخرافة جاهلاً إذا لم يعلم بالمانع، ويكون معانداً إذا تشبَّث بما يعلم امتناعَه، ويكونُ الملحدُ جاهلاً إذا لم يعلم بوجود ما أنكره أو إمكانِه، ويكون معانداً إذا عطَّل العلم وأسقط مقتضاه.. وما علمنا وجودَه بالبرهان، ولم نعاين كيفيته: قد نعلم صفاتِه بمفهوم لغوي، ولا نعلم كيفيةَ الصفةِ؛ لأنه لا يوجد في حِسِّنا البشري كيفيةٌ مماثلة؛ فيكون العلم حينئذ علماً بالوجود، وعلماً بوجود صفات الموجود دون علم بكيفيتها؛ وإنما قلت: (العلم بالوجود وصفات الموجود: لا يلزم منه العلمُ بالكيفية وصفاً، أو معاينةً)؛ لثلاثة أسباب:
أولها أنَّه من واقع تحليلنا لمعرفتنا البشرية وجدنا أشياءَ عرفنا وجودَها قبل أنْ نعرف كيفيتها، وثمة أشياءُ يقر العلم الحديث بمعرفة وجودها ولا يزال يجهل كيفيتها.. وثانيها أنَّ ما يعلمه الإنسان بحسه بين مدٍّ وجزرٍ خلال مرحلة العمر منذ رحمةِ المهد إلى وحشةِ اللحد أوْ نُوْرِه.. وثالثها أنَّ الحسِّ فيما شاهده عَلِمَ أنَّ الموجودات مختلفة، وربما عزَّ الأنموذج لأحد الموجودات المحسوسة بأنموذجٍ محسوس أيضاً.. وإذنْ فما غُيِّبتْ كيفيتُه عن الحسِّ البشري: ليس من الشرط أن يكون له في الموجود المحسوس ما يقارب صفته، ولهذا سَهُل على المؤمن: أنْ يتصوَّر في الجنة ما لا عين رأت، ولا أُذن سمعت، ولا خطر على قلبِ بشر؛ لأن ذلك على الكمالِ الْمُطْلَق؛ وهو مُتَصَوَّرٌ بأنَّه كمالٌ مُطْلَق لا يَقْبَلُ إضافة؛ ولأنَّ عمومَ النَّعِيمِ والكمالِ مَفْهومان لغة؛ ولأنَّ الكمالَ المُطْلَقَ وصْفٌ مفهومٌ من اللغةِ أيضاً؛ ولهذا آمنا بالله سبحانه بصفةِ كمالٍ لا يَقْبَلُ زيادةَ تكميل؛ ولأن أسماءَ الله سبحانه وتعالى صفاتٌ له لا يستحقُّ التسميةَ بها غيرُه؛ وهي مفهومةٌ معلومة من لغةِ العرب؛ ولهذا قال الإمامُ مالكٌ رحمه الله تعالى: (الاستواءُ معلوم، والكيف مجهولٌ).. إلا أنَّ الجملةَ غيرُ مُؤَدِّيةٍ البرهانَ كاملاً، والصواب: ( الاستواءُ معلوم ( أيْ مِن معاني اللُّغةَ)، والكيفُ معلومٌ (أيْ ببيان الله سبحانه عن نفسه)؛ إذْ قال سبحانه وتعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [سورة الشورى/11]، وقوله: {وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ} [سورة النحل/60]؛ فَفُهم بلغة العرب، وبنصوص الشرع: أنَّ كل مَنْ سواه سبحانه وتعالى: فَهُمْ خلْقه وعبيده ومُلْكُه المُسخَّرون بقضائه الكوني، ومِنهم المُتشَرِّفون بعبودِيَّةِ الْـعِزَّة والتكريم بطاعتِهم ربَّهم؛ إذْ جعل استجابتَهم لشرع ربهم وَفْق اختيارهِمْ؛ فمن شاء فَلْيؤمِن ومن شاء فليكفر؛ فتضرَّعوا إلى ربهم بالدعاء غيرِ اليائس أن يهديهم ويعصمَهم ويُثبِّتَهم؛ فرحمهم؛ لعلمه بسرائرهم؛ فضاعف جزاءهم وتكريمَهم وهو الغنيُّ الحميد، وأسقطَ عنهم مالا يملكون حريَّةَ اختيارِه، والقُدْرةَ على أدائِه؛ فلله الحمد في الأولى، وله الحمدُ في الآخرة، وله الحمد دائماً؛ فهو سبحانه الحي الباقي الدائم؛ فله الحمدُ حمداً لا ينقطع، ولولا الله ما اهتدينا ولا تصدَّقنا ولا صلَّينا.. إذْن فمباينةُ اللهِ خلْقَه في صفاتِه بمدلل الآيتين السابقتين: وانْتِفاءُ الْـمِثْلِيَّةِ، وإثباتُ المَثلِ الأعلى: وصفان لغويَّانِ مفهومان، وما لزم عنهما من كمالٍ مطلقٍ لا يقْبَلُ تكميلاً وصفٌ لغويٌّ مفهوم المعنى.
قال أبو عبدالرحمن: في جَدَلِيَّةِ الْـمَادِيّيْن عرَّف الماديون (ومنهم الشيوعيون) المعرفةَ بأنَّها: الانعكاسُ الإيجابي الهادفُ للعالم الموضوعي؛ وقوانينُه في ذهن الإنسان.
قال أبو عبدالرحمن: وفسَّروا هذه الجملة القصيرة بالتالي:
1 - أنَّ العالَمَ الخارجيَّ المحيط بالإنسان: هو مصدرُ معرفةِ الإنسان؛ وهو المصدرُ الوحيد.. ومصدرُ (الانعكاس الإيجابي): هو (ثروة الخبرة التي جمعتها البشرية)؛ أي أكبر إنجازات العالم، والتطبيق الثوري.. إذن المجتمع الإنساني هو الخبرةُ التي تستند إليها معرفةُ الفرد؛ وبهذا تكون الطبيعةُ الاجتماعية للمعرفة هي السِّمةُ الأولية لنظرية المعرفة الماركسية، وتكاد تتلخَّصُ هذه الطبيعة في الإنتاج المادي؛ لأنه مصدر الممارسة التي سيأتي الحديث عنها إن شاء الله تعالى.. واستدلُّوا على هذا بالأدوات والتجهيزات العلمية المعقَّدة التي تنتجها الصناعةُ الحديثة؛ فلولاها حَسَبَ زعمهم ما تمكَّن العلماء من اكتشاف أسرار نواة الذرَّة كالميكروسكوبات الإلكترونية، وصواريخ الفضاء؛ فكل هذه التجهيزات والأدوات نتاجٌ للنشاط المادي العملي للناس؛ وذلك النشاط هو الممارسة.
2 - أنَّ الممارسة على أساس النشاط المادي الإنتاجي للناس هي وسيلةُ التعرف على الأشياء والظواهر، وأنَّ الممارسة هي بدْءُ عملية المعرفة وأساسها؛ وهي المعيارُ لصحة المعرفة المكتسبة.. والممارسةُ أيضاً هدف للمعرفة؛ لأنَّ الإنسان يسعى لاكتساب معرفةٍ جديدة؛ وقد تكون هذه المعرفة الجديدة (اكتشافَ ممارسة جديدة) يسير بها نشاطُه العملي المستأنف.. إذن الممارسة وسيلة المعرفة؛ لأنها (بدء عملية المعرفة)، والممارسة أساس المعرفة؛ لأنها معيار صحتها.
3 - أنَّ هدف المعرفة تشكيلُ فكرةٍ صحيحة مِن وعَن الواقع، والسعيُ للمعرفة نشاطٌ إنساني.. إلا أنها دون الالتحامِ بالخبرة الاجتماعية؛ وهي مجرَّدُ نشاطٍ نظري؛ فاستنادُها على الخبرة هو الذي يجعلها ممارسة.. إذن فالنظرية الماركسية -كما يزعم أصحابها-: تعْكِس العالَـم، وتُلَخِّصُ خبرةَ البشرية العلمية؛ وتلخيصُها يوظِّف الممارسة؛ والممارسة دون النظرية عمياء؛ والنظرية دون الممارسة عديمةُ الجدوى: أي بدون معنى؛ فاحْمَدوا الله على نعمةِ العقلِ والإيمان، وَلِنَفْي هذه البلاغِمِ حديث يأتي، وإلى لقاء قريب إن شاء الله تعالى، والله المستعان.