أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: لا أزال منذ عشر سنواتٍ ونيِّفٍ أعمل في تَرِكةٍ خلَّفْتها ورائي منذ أربعين عاماً ونَيِّفاً أيضاً، وقد استهلك ذلك أكْثَرَ أوقاتي ونشاطي.. إلا أنني بحمد الله وفضله أَخْرُجُ مِن ذلك ببحوثٍ مُضَفَّرةِ المرائرِ، مُصَهْرَجةِ القنواتِ: أُغَطِّي بها ما التزمتُ به للصحافة، وتُغَذِّي سِلْسَلَةِ موسوعتي (الأعمالُ الكاملةُ) على الحجمِ الكبير جِدّاً على حجمِ ما أصْدَرَته هيئة الكتاب في القاهرة، ومقاسه (21×28سم)، وعددُ ورقِ الْـمُجَلَّدِ الواحد أربعمِئَةِ ورقةٍ ذات ثمانمِئَةِ صفحة ليس فيهنَّ فضاءٌ أَلْبَتَّة، بل شَغَلْتُ كلَّ فضاء بفائدة تُناسبُ سياقَ الكلامِ بين مَعْقُوفَينِ هكذا [ ]؛ وهذا هو منهجيْ في جميع مُؤلفاتي؛ جمعاً بين الْـحَسْنَيَيْنِ؛ فأكثرُ القدماءِ تكونُ حُرُوْفُهُمْ دقيقةً، والكلماتُ مُتَراصَّةَ مُدْمَجة.. وأهل العصر الحديث ينثرون الكلماتِ كَنَثْرِ بعرِ الكبْشِ؛ وفي الطباعة فالأغْلَبُ تكبير الحروف؛ وَبَعْدَ كلِّ ثُلَثَيْ سَطْرٍ أَوْ أَقَلَّ ابتداءُ سطر آخَرُ؛ وهذا الفضاءُ مُنَغِّصٌ مع تَوَرُّمِ الكتابِ؛ فَيَقْتَنِي الْـمُثَقَّفُ رَصَّاتٍ من الكُتُبِ تَضْغطها في خُمُسِ الكتاب.. وجمهرةُ الْـمُثَقَّفينَ لا تَتَّسِعُ بيوتهم لهذه الرَّصَّاتِ مِن الكُتُبِ.
قال أبو عبدالرحمن: ولهذه الأسباب كانتْ مكْتَبتي بين مَدٍّ وجزرٍ؛ فكَمْ مِن مَرَّةٍ اشتريتُ كُتباً الواحِدُ منها من عددٍ من الْـمُجَلَّداتِ بأغْلى الأثمان، وبعضُها بالدين؛ ثم أبيعُ منها بأبْخَسِ الأثمان: إما لضيق منزلي؛ فلا تَتَّسِعُ لمزيدٍ.. وإما لضيقِ ذاتِ يدي؛ فأبيع منها خَرْصاً كما يُباعُ الْـيَبيسُ مِن التَّمر إذا حَالَ عليه حولٌ أو أكثرُ، ومِثْلُه حويل التَّمْرِ في الجِصاص إذا حال عليه حولان، ومعالي الدكتور عبدالله التركي، وسعادة الدكتور يحيى بن محمود آل جنيد، وسعادة الدكتور أمين سليمان سيدو، وغيرُهم شهداءُ على ذلك.. كلُّ ذلك يباعُ خَرْصاً !!.. وبقيَ لي مِن هذه التركة بحمد الله ما صَوَّرْتُه مِن وَرَقِ بعضِ الكُتُبِ التي بِعْتُها، وبقيتْ كُتُبٌ لم أُفرِّط فيها سواءٌ أكانتْ صُوَرَ مخطوطاتٍ، أو كُتُباً مطبوعةً؛ ولا سِيَّما كتبُ الأئمةِ الشافعي وابنِ جريرٍ وابن حزمٍ وابن عبدالبرِّ والذهبيِّ وابن حجرٍ وابن فارسٍ والراغبِ الأصفهانيِّ والزمَخْشَري وابن دقيق العيد وابن كثير؛ وما فَرَّطتُ فيه مُسْتَدْركٌ بحمد الله منذ أصبح الأنترنت مِن كُبريات النِّعم.. وقل مثل ذلك عن كُتب الخواجات ولا سيما توماس الأكويني وإسحاق بن ميمون اليهودي وديكارتْ وديفيد هيوم وجون لوك وكانط.. إلخ.. إلخ.. ولم أُفرِّطْ أيضاً في التَّركة التي خلفتها خلال ما يقرب مِن نصفِ قرن؛ فلا أزال أُرتِّبها وأكتب عناوينها فيما ناف على ستمئة إضبارة كبيرة، وأمَّا الأضابير الصغيرة فَحدِّث ولا حرج.. وما تركته في هذه الأضابير عن الإيمان والكُفْرِ كلُّهُ يتقاطر مِن الصهيونية العالمية ولا سيما الماركسية التي لا تؤمن بالله أصلاً على طريقة عاد وثمود الذين جحدوا ربهم، والمآل بعد ذلك كُلُّهُ إلى الصهيونية اليهودية الظَّلامية التي استباحتْ الإفسادَ في الأرض، وإهلاكَ النسلِ والحرثِ والبر والبحر، ونسبَتْه ظلماً وعدواناً إلى شرع الله، والله لا يحبُّ الفسادَ ولا يرضاه ولا يأمر به، بل يعاقِب عليه، والله الغفور الرحيم شديد العقاب سريع الحساب.. ومن عُمَدِ الإلحاد في العصر الحديث (جان موللر) Jean Muller [ولد في (كوبلنس) Coblence في عام 1801م، ومات في برلين عام 1858م.. كان أستاذاً في بون وبرلين، ثم أصبح مشرفاً على جامعة برلين.. وتركَّزت أعماله على الفيزيولوجيا العصبيَّة على وجه الخصوص.. انظر معجم لاروس القرن العشرين (بالفرنسية)،ج4، ص1035]، وفورباخ (لودفيج أندرياس) [1804 - 1872م) الألماني من كبار الملحدين الهاجرين الأديانَ.. جمع بين نقيضين: المادية والمثالية، وعنه نشأ ماركس وإنجلز ، وذهبَ (هيلمولتز) [وفي الأصل المُتَرْجـَم: (غيل مغولتز)؛ والصواب ما أثبتُّه في الأصل (هيلمولتز) Helmolotz، واسمه: (هيرمان لودفيك فرديناند هيلمولتز): فيزيولوجي وفيزيائي ألماني.. ولد في (يوتسدام) عام 1821م، ومات في (شارلو تنبورج) عام 1894م، وألَّف كتابَ: (دليل البصريات الفيزيولوجية) عام 1856م، وله غيرُه (نظريةُ فيزيولوجية للموسيقا قائمة على دراسة الأحاسيس السمعية) ألفه عام 1856م.. تنقَّل في عدد من المناصب الطِّبية خلال حياته.. انظر: معجم لاروس القرن العشرين (بالفرنسية).. وفي الأصل المترجم ورد اسم كتابه كما هو مثبت أعلاه (فيزيولوجية البصريات)، والصواب (دليل البصريات الفيزيولوجية).. [الدكتور بقاعي].. ذهب إلى أنَّ الإحساسات رموزٌ للظواهر الخارجية ينتفي عنها كل تشابه مع الأشياء التي تشابهها !!.. وهذا يعني أنَّ الحِسِّ البشري لا يعكس الواقع؛ لأنه لا تشابه بين الإحساس والمَحسوس؛ وعلى هذا أيضاً يكون الإحساس مجرَّدَ رمزٍ.. ونظريةُ الرمز هذه تسمى (النظرية الهيروغلوفية) قال بها (بليخانوف)؛ والهيروغلوفية hieroglyphic: نظامٌ للكتابة يَسْتَخْدِم الرموزَ التصويرية أساساً في البيان؛ وأصلُ الكلمةِ في اليونانية يعني: (النقش المقدس)؛ وذلك بسبب استخدامها البارز في المعابد والقبور؛ وهي تنطبق على شكل من الأنظمة التصويرية للكتابة المؤسسة في مصر نحو 3000 ق م.. على الرغم من أنَّ أنظمةً أخرى مشابهة يمكن العثورُ عليها في الصين، ووادي الإندوز في جنوب آسيا، وفي أمريكا الوسطى وغيرها.. انظر (كريستل) في كتابه ( قاموس اللغة واللغات 171)، وانظر (و. ج. ت ميشيل) في كتابه (علم دراسة الأيقونات الصورة والنص والإيديولوجية ) بالإنجليزية/ مطبوعات جامعة شيكاغو، 1987م [الدكتور بقاعي].
قال أبو عبدالرحمن: (بليخانوف، جيورجي فالينتينوفتش) [1856 - 1918م] من طواغيت الحركة الشيوعية الأوائل؛ وهو وأول من أطلق على الماركسية (المادية الجدلية).. ولقد صدر بالعربية المجلد الأول من أعماله بعنوان: (المؤلفات الفلسفية) بترجمة د فؤاد أيوب/ دار دمشق عام 1980م.. وفي ص685 - 725 من المجلد الأول كتب (فيرافومينا) ترجمة له بعنوان: (جورجي بليخانوف ودوره في الدفاع عن الفلسفة الماركسية وتفسيرها).
قال أبو عبدالرحمن: إن إحساسَنا ينقل لنا الأعيانَ في الخارج على صورة واحدة، ولا نقول: (إنه ينقل لنا صورةَ كلِّ جانب من جوانب أحد الأعيان)؛ بل هذا مرهونٌ بطاقةِ الحسِّ واستعدادِه، وفي شريعة ربنا سبحانه وتعالى: نحن مكلفون - في عباداتنا ومعاملاتنا - وَفْقَ الطاقةِ الحسِّيَّة المشتركةِ بين البشر؛ لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها.. ومهما كانت طاقة الحس فهو يعكس لنا شيئاً موجوداً، ولا يخلع على الأشياء صفاتٍ غيرَ صفاتِها، وإنما يعكس صورةَ الموجود؛ فرؤيتنا للقمر قرصاً أصفر بالعينِ المجرَّدَةِ انعكاسٌ صحيح لصفحةِ القمر حالَ بُعْدِه، ورؤيتُنا له ودياناً وجبالاً بالتلِسكوب المكبرِّ انعكاسٌ صحيح لصفةِ القمر حالَ قُرْبِه؛ ولإيضاح هذه الحقيقة أحب أن أناقش صورتين من صور ما سَمَّوْهُ الخداعَ الْـحِسسِييَ؛ ليكون ذلك نموذجاً لنقاشِ كُلِّ صورةٍ من صور الخداع الْـحِسسِييِ في زعمهم .. الصورة الأولى أنْ نأخذ شيئين أحدُهما معدني، والآخر خشبي؛ فسنجد أنَّ اليدَ تُحِسُّ بأنَّ المعدنيَّ أبردُ من الخشبي مع أنَّ حرارتهما واحدة؛ فالإحساس باللمس خدعنا؛ فكيف نجعل إحْساسَنا صورةً للواقع؟!.. ويجيب العلماء عن ذلك بأن حرارة المعدن والخشب متساوية بلا ريب؛ إلا أن الخشب سَيِّؤُ النَّقل لحرارة اليد بخلاف المعدن الذي ينقل الحرارة بسرعة؛ فإحساسُ جِلْدنا اللامسِ انعكاسٌ للفارق بين سُرعَتي الحرارة؛ وعلى هذا يكون إحساسُنا نقَلَ لنا صورةً من صور الواقع، ثم كملت الصورة بالتجربة.. وإذا وضعتُ يدي اليمنى في ماء ساخن، ووضعت اليسرى في ماء بارد، ثم نقلتهما إلى ماء عادي تـبيَّن لي أن اليمـنى تشكو البرودة مع أنها خرجت من الماء الساخن.. في حين أن اليسرى تشكو الحرارة مع أنها خرجت من الماء البارد؛ فالحواس نقلت لنا عكس الواقع فكيف تكون صورةً له ؟!.. ويجيب العلماء عن ذلك بأن قانون الفيزياء يقرِّر أنَّ الحرارة تنتقل من الأجسام التي تتمتَّع بحرارة أعظم إلى الأجسام التي تتمتع بحرارة أدنى [انظر المادية الدياليكتيكية ص164 - 165]؛ فالحس البسيط نقل لنا صورةً من صور الواقع، ثم اتَّضحت الصورة من التجربة، وهذا الواقع من خِداع الحواس البسيط عندهم لا يعني اطِّراحنا الحواسَّ وهي مصدر معرفتنا التي يحكمون بأنها خادعةٌ؛ بل الجوابُ: أنَّ استقراءها وتَحْلِيلَها بشكل صحيح دقيق، وكذلك الإحاطةُ بقوانينِ الأعيان: كلُّ ذلك يعني أن الإحساس نقل لناورة واقعيةً تابعةً قوانينَ الأعيانِ كالمعدنِ والخشب المرتبطين بإحساس اليد؛ فهذا هو واقعهُما وواقع إحساسِ اليد؛ وكل ذلك لا يتأتَّى إلا بعد استخدامنا الحواسَّ، وارتباطَ معطياتِها بنشاط تفكيرِنا وإحساسِنا.. وقال مؤلفو (المادية الدياليكتيكية ص 166): «ليس هناك مجالٌ للشكِّ المبدئِيِّ بما تدلنا عليه أعضاءُ حواسنا؛ ولكنَّ هذا لا يعني أنَّ الإحساساتِ تُعْطي صورةً دقيقةً كُلَّ الدقة من الواقع الموضوعي في ذات اللحظة [يعني نَفْسَها] التي يصبح فيها هذا الواقعُ موضوعَ إدراكِ أعضاءِ حواسنا.. إنَّ الصورة الأوَّلِيَّةَ للأشياء الماديةِ تتوضح وتغتني وتتكامل تدريجياً على أساس الإدراكاتِ المتكرِّرةَ كثيراً، وعلى أساس عمل الفكر الْـمُتَحَقَّقِ منه بمختلِف أعضاء الحواس، وعلى أساسِ نشاطِ الإنسانِ العلميِّ المتعدِّد الجوانب».
قال أبو عبدالرحمن: هذا موجز الفلسفة الماركسية في نظرية المعرفة والعلم عُموماً، وفي إحْساسِ حواسِّنا خصوصاً لَـخَّصْتُها بأمانةٍ من أصول الفلسفة الماركسية تأليف (ف. ج. أفاناسييف)، ومن كتاب (المادية الجدلية لمؤلفين سوفياتيين)، ومن سابق خبرة بِمَسارِ نظرية المعرفة في الفلسفة الحديثة، ويَكاد يَكون عمدةُ هؤلاء كتابَ (الأعمالُ الكاملة) تأليف (لينين)، وهؤلاء الماركسيون يُـحْسِنون الخُطب، ويعزُّ عليهم التفلسف؛ لعقدة الإصرار على فكرة الإلحاد التي أصبحت شرطاً لكل تفكير ماركسيٍّ.. وقلتُ ( عن سابقِ خبرة) لأنَّ التَّرجمات تُوَصِّل الأسماءَ، والكلامَ المباشِر كالقوانين والفلسفات؛ وإنما تَعْجَزُ عن الصُّوَرِ والمجازات، وإنما تُعبِّر عن شيىءٍ مشابِه إلا أنْ تأتي تَرْجَماتٌ لِـمُترْجمين أَئِمَّةٍ في فهمِ المادة بلغتِهم الأولى ولغتهم الثانية مِثْلِ أحمد حسن الزيَّات، وأحمد رامي، ودريني خشبة؛ فإنْ تَعَدَّدت الترجمات عن لغات كثيرة بترجماتٍ على تلك الهيئةِ من الإمامة: فلا وجه لتلجلج الفهمِ بأي وجه يعقل.. والله سبحانه وتعالى جَعَلَ الْـحِسَّ بحضور العقلِ أوَّلَ شرطٍ لِـمَسْؤُلِيَّةِ المُكلَّفَ أمام ربِّه؛ فبرحمتِه وَعَدْلِه: لا يُؤاخِذه بما لا يملك معرفتَه وحُرِّيَةَ اختيارِه مِن دلالةِ آيات الله في الأنْفُسِ والآفاقِ التي هي سبيلُ الإيمان بشرع الله تصديقاً به، وعِلْماً بإيجاب اتَّباعِه، وعِظَمِ التَّفريطِ فيه؛ فإذا بلغَ العَملُ الظَّلاميُّ اليهوديُّ هذه الدِّقَّةَ في المُغالطةِ مِن جَعْلِ يقينَ الإحساسِ بحضورِ العقلِ خِداعاً: فماذا سيبقى للبشرِ من نعمةِ الحسِّ والعقل والدينِ مِمَّا يكفلُ صلاحَ وسعادةَ محياهم ومَمَاتِهم ؟!.. وحسبنا الله ونعم الوكيل، وإلى لقاء قريب إن شاء الله تعالى، والله المستعان.