أ. د.عثمان بن صالح العامر
عندي أنّ العقل ليس من خصائص الإنسان التي تميزه عن بقية المخلوقات؛ فالأحجار والأشجار والحيوانات والطيور والجن والملائكة وبقية المخلوقات... لها ملكة الإدراك العقلي كما ذكره القرآن الكريم وأثبته العلم الحديث والمشاهدة العامة، إلا أنه إدراك محدود بالمهمة التي أنيطت بهذا المخلوق المسخر لخليفة الله في الأرض « الإنسان» ، بل حتى بنو آدم المستخلفون من الرب - وليس عن الرب - للعبادة وعمارة الأرض، لم يجعل الله لعقولهم مدىً مفتوحاً يخترق حجب الغيب ويتجاوز عنان السماء، إذ جعل الله عز وجل للعقل البشري حدوداً لا يتجاوزها، ولمداركه عالماً لا يمكن أن يتعداه، والنهايات التي يكتبها الله سواء للأمم وللحضارات أو للشعوب والأفراد هي في رحم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، والعقل البشري يتقازم أمام هذا النوع من المعارف، فهو لا يمكن له أن يعلم متى هي النهاية، ولا كيف وأين، فضلاً عن أن يقدم فيها أو يؤخر، على المستوى الفردي مثلاً لا يعلم الإنسان متى سيموت ولا كيف ستكون نهايته ولا حتى أين ومع من سيرحل عن دنيا الناس، ولذلك امتدح الله أول ما امتدح في كتابه الذين يؤمنون بالغيب، إذ قال عز وجل في أول سورة البقرة الم ذَلِكَ الكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُم يُنْفِقُونَ .
غالبيتنا تتوقع أن الجندي في المعركة هو من سيموت أولاً، وأن كبير السن قريباً سيودعنا، وقس على هذا المريض والمسافر سفراً غالبه الهلكة، ومن هم على شاكلة هؤلاء مما هو مبثوث في كتب الفقه، في المقابل نعتقد أنّ الصحيح والصغير والموظف واللاعب مكتمل القوى واللياقة و... أقل عرضة للموت، ولكن القدر الذي هو سر الله في خلقه يقول غير ذلك، ولا نجد له تفسيراً يقبل القياس والاستنتاج؛ لأنّ هذا من عالم الغيب المطلق الذي لا يعلمه إلا الله وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ .
خالد بن الوليد رضي الله عنه يخوض المعارك ويقاتل الأبطال ويواجه الأخطار وفي النهاية يموت على فراشه، فيروي لنا لحظة الاحتضار نهايته من هذه الدنيا بقوله: « لقد شهدت مائة زحف أو نحوها، وما في بدني موضع شبرٍ إلاّ وفيه ضربة أو طعنة أو رمية، وها أنا أموت على فراشي، فلا نامت أعين الجبناء! وما لي من عملٍ أرجى من لا إله إلا الله وأنا متترِّس بها».
من كان يتصور يوماً ما أن من قدموا من كل فج عميق للبيت العتيق، للبلد الحرام، لموطن الأمن والأمان، تأتيهم ريح عاصف وهواء شديد وأمطار سريعة لم تكن معروفة في مكة وليس هذا وقتها، فتهوي على رءوسهم رافعة ضخمة، ويشاء الله أن يختارهم للرحيل والانتقال من الدنيا لدار البرزخ وهم في أطهر بقعة على وجه الأرض، يتلون كتاب الله ويدعونه في عصر يوم الجمعة المبارك، يلتمسون ساعة الاستجابة التي قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: « في يوم الجمعة ساعة لا يوافقها مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله خيرًا إلاّ أعطاه»، وقال بيده، قلنا: يقللها يزهدها؛ متفق عليه.
لقد حاول الكثير من الفلاسفة والمنظّرين أن يسبر غور النهايات ويعطي لها التفسيرات، ولكنه – جزماً - أعجز من أن يصل إلى نتيجة، ذلك أنّ الله جعل للعقل البشري عالمه الذي لا يتجاوزه، ومتى حاول التمرد والخروج إلى ما هو خارج عالم الحس هلك وأهلك، مثله في ذلك تلك المدارس الفلسفية التي لا تؤمن إلاّ بما يقبل القياس العقلي ويمكن إدراكه بمنافذ المعرفة التي أوجدها الله في الإنسان.
إنّ موقف المسلم إزاء أقدار الله المؤلمة - بعد أن يبذل الأسباب ويفعل ما أوجب الله عليه محاولة منه لدفعها وتجنب آثارها - التسليم المطلق بقضاء الله وقدره، والرضا بما كان، وعدم السخط والجزع، والمبادرة منه بحمد الله سبحانه وتعالى، على أنه لم تكن هذه المصيبة التي حلت به أشد مما هي عليه، ويتبع الحمد بالاسترجاع (قول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلفني خيراً منها) كما في الحديث الذي رواه أبو موسى الأشعري رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إذا مات ولد العبد قال الله تعالى لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم، فيقول: فماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسمّوه بيت الحمد» رواه الترمذي وقال: حديث حسن.
اللهم لا تفاجئنا بمكروه، اللهم إنا نعوذ بك من موت الفجأة..
رحم الله من قضوا نحبهم يوم الجمعة الماضي 27 / 11 / 1436 هـ 11 / سبتمبر (أيلول) / 2015م في بيت الله الحرام ساعة العصر - فاجتمع لهم شرف الزمان والمكان - وأسكنهم فسيح جناته وتقبّلهم عنده من الشهداء، ورزق أهليهم وذويهم الصبر والسلوان وأعاننا على ما أعانهم عليه، وشفى الله المصابين وأعادهم إلى ديارهم سالمين غانمين، وجزى الله حكومة خادم الحرمين الشريفين - وعلى رأسهم الملك سلمان بن عبد العزيز - حفظه الله ورعاه - الذي وقف بنفسه على ما حدث، وزار المصابين ودعى لهم بالشفاء العاجل، وأكد فيما قال على شرفية المكان وفخره بنعته « خادم الحرمين الشريفين « ( ويشرف ملكها أن يكون خادماً للحرمين الشريفين) - خير الجزاء على ما تبذله ويبذله وفقه الله شخصياً، من أجل راحة وطمأنينة وأمن واستقرار الحجيج والمعتمرين والزائرين، وتقبّل الله من وفود الرحمن حجهم، وجعل عيدنا سعيداً، ووقانا جميعاً شر الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم آمين وإلى لقاء والسلام.