أ. د.عثمان بن صالح العامر
شاء الله - عز وجل - أن يفضل بعض الأماكن والأزمان، وأن يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس. وإبراهيم - عليه السلام - من أولئك المصطفين الأخيار أولي العزم من الرسل، وأبو الأنبياء، ترتبط سيرته بمكة المكرمة {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاة فَاجْعَلْ أَفْئِدَة مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}. نعم، بطحاء مكة تحكي تفاصيل قصته - عليه السلام -، وتروي أحداث حكايته جبالُها. تذكرنا أيام عيد الأضحى بجانب من ابتلاء الله له بأمره بذبح ابنه إسماعيل - عليهما السلام - الذي عاونه في رفع القواعد من البيت {وَإِذْ يَرْفَعُ إبراهيم الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}. وفداء الله له بكبش عظيم؛ ليذبحه فداء له {وَفَدَيْنَاه بِذِبْحٍ عَظِيم}.
إن المتأمل فيما حكاه الله - عزّ وجلّ - في هذه الحادثة بالذات يخلص إلى أن إبراهيم - عليه السلام - يتسم بصفات عدة، أهمها في نظري:
* صدق الانتماء لهذا الدين الذي يدين لهّ به {... مِّلَّة أَبِيكُمْ إبراهيم هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاة وَآتُوا الزَّكَاة وَاعْتَصِمُوا بِاللَّه هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ }. وإسلامه - عليه السلام - الكامل لخالقه ومولاه، واستسلامه المطلق لربه حتى وإن غابت عنه الحكمة وجهل الغاية من الأمر الرباني الذي أُنزل عليه {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِلَّة إبراهيم إِلَّا مَن سَفِه نَفْسَه وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاه فِي الدُّنْيَا وَإِنَّه فِي الْآخِرَة لَمِن الصَّالِحِينَ}.
* الاستجابة للنداء بالتضحية والفداء، وعدم التراخي والتضايق مهما كان الأمر صعباً، بل المبادرة والإسراع بتنفيذ أمر الله - عز وجل - {فَفِرُّوا إلى الله إِنِّي لَكُمْ مِنْه نَذِيرٌ مُبِين}، {وَسَارِعُوا إلى مَغْفِرَة مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّة عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّه يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.
* سلامة القلب، وصفاء النفس، والإيمان بأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وكل شيء عنده بمقدار؛ فالأمر في النهاية لله من قبل ومن بعد، وما يدري الإنسان أن ما يكرهه قد يكون فيه ما هو خير له {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْه لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّه يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُون}.
* الثقة بموعود الله، واليقين الجازم بقرب فرجه سبحانه لعبده إذا كان هو معه، وكما هي وصية رسول الله - عليه الصلاة والسلام - لعبد الله بن عباس - رضي الله عنهما -: «كن مع الله يكن الله معك...».
* استشعار منزلة هذا الإنسان عند الله الذي سخَّر له كل ما في الكون، وجعل الأنعام فداءً له.
ما أحوجنا ونحن نسوق الأضحية لنذبحها قربةً لله - عز وجل - أن نستشعر هذه المعاني اللطيفة التي هي المراد الأساس والغاية العظمى من سَنّ هذه الشعيرة العظيمة {لَنْ يَنَالَ اللَّه لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُه التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّه عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ}.
وجماع التقوى وأسسها هذه الأركان الخمسة السالفة الذكر.
تقبل الله منا ومنكم أضحياتنا، وجعلنا على ملة الحق إلى يوم أن نلقاه - عز وجل -.
وعيدكم وقيادتنا وجنودنا وعلمائنا وشعبنا الغالي مبارك، وكل عام وأنتم بخير، ودمت عزيزاً يا وطني قيادة وجنداً، شعباً وأرضاً، وحفظ الله الحجيج، وأعادهم إلى أهلهم سالمين غانمين. وإلى لقاء. والسلام.