د. عيد بن مسعود الجهني
قصة اكتشاف البترول في المملكة العربية السعودية.. قصة مثيرة، قصة أسطورية بطلها الملك عبد العزيز رحمه الله صنع بإرادة الله دولة كبرى قوية الأركان.. تعيش (85) عاماً من الأمجاد العراض والاستقرار والأمن والرفاهية الواسعة والوحدة غير المسبوقة.. جاءت بعد ملحمة كبيرة من الجهاد والكفاح والبطولات التي جسدها الملك عبد العزيز على أرض هذه البلاد الطاهرة.
إنها قصة كفاح بطل جاءت به العناية الإلهية ليقيم منهج الله على هذه الأرض المباركة.. وإنها لحكمة بالغة عظيمة عندما نتأمل هذا المشهد الذي جاء في البحث والاستكشاف عن النفط وكيف أن كبرى شركات البترول البريطانية التي كانت تبحث عن البترول في المملكة أعلنت في أول الأمر فشلها التام في العثور على البترول ويأسها من اكتشافه، ولكن لم يفقد الأمل في العثور على البترول في بلاده لأنه كان مؤمنا، وتحققت المعجزة بفضل الله على يد المؤسس والموحد والمصلح الملك عبد العزيز الذي كان يطمح لتوفير العيش الكريم لشعبه فقد منح عام 1923 شركة (ايسترن آند جنرال سنديكيت) حق التنقيب عن النفط في الإحساء، التي أكدت عدم وجود بترول في منطقة الامتياز وعجزت عن دفع التزاماتها.
وقد اعتبر هذا الإجراء إخلالا بالاتفاق الذي كان قد منحه الملك عبدالعزيز للشركة مما حدا به إلى إنهاء عقد الامتياز عام 1927م، بعد أن أخفقت بالوفاء بالتزاماتها العقدية بعجزها عن دفع متأخرات مالية بلغت (9000) جنيه إسترليني.
في تلك الفترة من التاريخ كان العالم يعيش فترة كساد اقتصادي عظيم أخذت أعاصيره تمتد إلى دول العالم أجمع والملك عبد العزيز وشعبه شعروا بآثار ذلك الكساد الاقتصادي الذي وضحت معالمه في انحسار أعداد الحجاج؛ ففي عام 1927 لم يؤد فريضة الحج سوى (132000) حاج، ومع شدة ضراوة الزلزال الاقتصادي العالمي ما بين عام 1929 إلى 1933م تدنى عدد الحجاج في عام 1930 ليبلغ 85000 ثم انحدر إلى 20000 فقط في العام التالي.
وتدور الأيام سريعة فرغم فشل الاتفاق مع شركة (ايسترن آند جنرال سنديكيت) وخيبة أمل الميجور هولمز، إلا أن الملك عبد العزيز لم يترك مشروعه الحضاري وإنما فتح الباب أمام المستثمرين الآخرين فاستشار (هاري سانت جان بريدجر فلبي) Harry st. john philby الذي كان ضابطا في الجيش البريطاني وموظفا بريطـانيا في الهنـد واعتنق الإسلام في أغسطس 1930 وقد رشح فلبي للملك عبدالعزيز المليونير الأمريكي تشارلز كرين (CharlesR.Crane) الذي كان وصوله في أواخر فبراير عام 1931 ومعه مترجمه جورج انطونيوس الفلسطيني الجنسية حيث تشرف بمقابلة الملك عبدالعزيز، وناقش مع الملك أمورا تتعلق بالتنمية في المملكة، وقد رحب الملك عبد العزيز بآراء كراين الذي أحضر الأمريكي توتشل (Twitchell K.s.) الخبير في التعدين على حسابه الخاص ليقوم ببعض الدراسات الجيولوجية، حيث وصل إلى المملكة في 15 ابريل 1931 للاستفادة من خبراته في البحث عن كنوز الذهب الأسود وقدم تقريرا عن المياه في الحجاز كان غير مشجع للزراعة بشكل إقتصادي، يقول توتشل (TwitchellK.s.) أن الملك عبدالعزيز كلفه بإجراء دراسته لتحري مصادر المياه في المملكة والبحث عن البترول في منطقة الأحساء.
لا شك أن اكتشاف بابكو وهي شركة تابعة (لسوكال) البترول في الجارة البحرين في مايو عام 1932 على عمق 670 مترا تقريبا كان عاملا هاما زاد من شهية الشركات الأمريكية، مما شجعها على دخول حلبة الصراع النفطي على أراضي الدولة الكبيرة والحديثة للفوز بامتياز النفط.
هنا بدأ التنافس والصراع بين الشركات الأمريكية والبريطانية على التنقيب عن النفط في المملكة ودام صراع التنافس فترة قصيرة انتهي باختيار الملك عبدالعزيز للشركة الأمريكية «ستاندرد أويل أف كاليفورنيا (سوكال)» بعد مفاوضات مطولة للفوز بامتياز التنقيب رغم تقدم شركة بترول العراق البريطانية بعرض للحصول على امتياز التنقيب، إلا أن الملك عبدالعزيز فضل عرض الشركة الأمريكية لإيجاد نوع من التوازن السياسي والاقتصادي لصالح المنطقة برمتها.
ولقد كان اجتماع لندن بتاريخ 13 يناير 1933 بين توتشل مهندس التعدين الذي فوضه الملك عبد العزيز للعمل وكيلا له في السعي لإيجاد رأس المال الأمريكي المطلوب لتطوير الموارد السعودية النفطية والمعدنية بعد اكتشاف الزيت في البحرين وهاملتون ولمباردي نقطة هامة على طريق عقد اتفاقية النفط بين المملكة وشركة ستاندرد أويل أف كليفورنيا (سوكال) حيث تم وضع اللمسات الأخيرة على اتفاقية التنقيب عن البترول في المملكـة، وبعد اجتماع لندن غادر كل من توتشل وهاملتون إلى مدينة جدة بعد مرورهما في فرنسا وفي مرسيليا استقلا الباخرة (بورما) حيث وصلا إلى جدة لعقد محادثات الامتياز مع ممثلي حكومة المملكة اعتباراً من 15 فبراير 1933م.
وفي 4 صفر 1352هـ الموافق 29 مايو 1933م حيث شهدت مدينة جدة توقيع اتفاقية الامتياز بين المملكة العربية السعودية وتلك الشركة للتنقيب عن البترول واستغلاله في المنطقة الشرقية لمدة ستين عاما، التي أصبحت سارية المفعول اعتبارا من 20 ربيع الأول 1352 هـ الموافق 14 يوليو 1933م.
وقد نصت المادة الأولى من هذه الاتفاقية « تمنح الحكومة للشركة بمقتضى هذه الاتفاقية ووفقا للشروط الخاصة بالمساحة المحدودة الحق المطلق لمدة ستين سنة تبتدئ من تاريخ سريان مفعولها للتحري والتنقيب والحفر واستخراج ومعالجة وصنع ونقل ومعاملة وأخذ وتصدير البترول والإسفلت والنفط والشحومات الطبيعية والشمع والسوائل الكربونية الأخرى ومستخرجات جميع هذه المحصولات - من المفهوم على كل حال إن هذا الحق لا يتضمن منح الحق المطلق لمبيع المنتوجات المكررة في داخل المنطقة المشروحة أدناه أو في داخل المملكة العربية السعودية».
وبعد التوقيع على الاتفاقية كونت «سوكال» شركة خاصة للتنقيب عرفت باسم شركة كاليفورنيا أريبيان ستاندردأوف أويل (كاسوك) وفي عام 1936 م انضمت شركة تكساس للبترول (Texas oil) (تكساكو حاليا) إلى الاتفاقية وحصلت على نصف ملكية كاسوك وفي 31 يناير عام 1944 استبدل اسم (كاسوك) إلى شركة البترول العربية الأمريكية Arabian American والمعروفة باسم (أرامكو) Aramco.
وبموجب اتفاقيتين وقعتا سنة 1933 م وسنة 1939م، حددت منطقة الامتياز الخاصة بمساحة تبلغ حوالي 4.959.00 ميل مربع، وتقع هذه المنطقة في الجزء الشرقي من المملكة، كما منحت منطقة امتياز أخرى في أواسط نجد وغربها بمساحة 77.000 ميل مربع وبموجب اتفاق ملحق أضيف إلى الاتفاق الأصلي عام 1939م، زادت منطقة الإمتياز إلى 440000 ميل مربع، ثم وقعت الشركة عدة اتفاقات مع الحكومة السعودية تتخلى بموجبها عن مساحة 33000 ميل مربع، في فترة تمتد من عام 1949 حتى عام 1970 وفي عام 1949 م تخلت أرامكو عن 36000 ميل مربع، وفي عام 1952 تخلت أرامكو عن مساحة 34000ميل مربع، وفي عام 1963 م وقعت أرامكو مع المملكة برنامجا للتخلي تدريجيا عن معظم مناطق امتيازها بحيث لا يبقى في السنين الأخيرة من مدة امتيازها أكثر من 3 % من مجموع مساحات منطقة الامتياز الأساسية والمنطقة التي كان لأرامكو حق الأفضلية فيها وفي أوائل الثمانينيات من القرن المنصرم آل كل ملكية الشركة إلى الدولة ليصبح اسمها أرامكو السعودية.
بذا تكون شركات النفط الأمريكية قد شقت طريقها نحو الاستثمار البترولي في المملكة ولتفوز على شركات النفط البريطانية في حلبة صراع اقتصادي نفطي جديد.. وأكد هذا عبقرية وحكمة وبعد نظر الملك عبدالعزيز وفهمه العميق ونظرته الاقتصادية والسياسية لمستقبل بلاده.
واستمر التنقيب الجيولوجي في المنطقة وبعد أشهر قليلة حولت (سوكال) الامتياز إلى شركة (كاليفورنيا أريبيان ستاندرد أويل (كاسوك) CASOC وأدت أعمال التنقيب الأولى إلى اكتشاف تكوينات جيولوجية تشير إلى احتمال وجود الزيت فيها وقد أطلق على هذه التكوينات فيما بعد « قبة الدمام» فتقرر حفر أول بئر تجريبية فيها وشرع بالحفر التجريبي لبئر الدمام الأولى في 26 محرم 1354 هـ الموافق 30 أبريل 1935 م إلى عمق 3200 قدم، ثم هجرت بعد أن عثر فيها على كمية ضئيلة من الزيت والغاز، بعد ذلك حفرت تسع آبار أخرى في طبقة البحرين (الطبقة الأرضية المنتجة للزيت في البحرين) إلا أن النتائج كانت مخيبة للآمال.
وفي أغسطس عام 1935م ومع الاقتراب من عمق الطبقات الحاملة للزيت في البحرين (نحو 610) أمتار بدأ الزيت بالظهور في بئر الدمام، ومع أن الكمية الناتجة لم تكن بالمعدلات التجارية التي كانوا يرجونها (وهي حوالي ألفي برميل في اليوم)، إلا أنها كانت كافية لإثبات أن الزيت موجود وفي شهر سبتمبر من نفس العام وعلى عمق 590 مترا تقريبا تدفق الزيت بمعدل يقارب 100 برميل في اليوم لكنها بقيت دون مستويات الإنتاج التجاري وفي فبراير 1936 وعندما بدأ الحفر في البئر رقم 2 تبين أنها أفضل من سابقتها من حيث وفرة الزيت وفي يونيو وعلى عمق 3800 متر بينت إحدى التجارب تدفق الزيت بمعدل يزيد على 3800 برميل في اليوم من البئر قبل أن تسد مؤقتا لعدم وجود خزانات كافية لاستيعاب تلك الكمية الكبيرة من الزيت وما بين عام 1934 - 1935 تم حفر الآبار من 3 - 6 لاختبار احتمالات وجود الزيت في تشكيلات قبة الدمام.
وجاء الخبر السعيد ففي 4 مارس 1938م وصلت إلى مقر الشركة برقية عاجلة تعلن أن البئر رقم (7) بدأ إنتاج النفط منها بكميات تجارية فعمت الفرحة الجميع وناموا في سان فرانسيسكو وفي حقول البترول تلفهم السعادة وعلى الفور أعلنت سوكا أن بئر الدمام رقم 7 ينتج 1938 برميلا في اليوم على عمق واحد ونصف الكيلو متر تقريبا، وقد استمرت عمليات الاختبار إلى أن أصبحت البئر تنتج ما يزيد على 100000 برميل في اليوم وخلال مدة قصير تم تعميق البئر 2 و 4 إلى المستوى نفسه، واكتشف الزيت فيهما أيضا.
هنا تأكد وجود الزيت بكميات تجارية في المملكة، وفي سبتمبر 1938م بدأت الشركة في شحن الزيت بالصنادل إلى مصفاة بابكو في البحرين.
وفي 16 أكتوبر 1938م أعلنت كاسوك للحكومة السعودية رسميا أنها بدأت الإنتاج التجاري من النفط السعودي الذي طال انتظاره بكميات كبيرة فانتعشت الآمال، وكان ذلك في شهر محرم 1357 هـ الموافق مارس 1938 م، وقد أطلق على تلك المنطقة التي اكتشف فيها الزيت اسم «المنطقة الجيولوجية العربية».
ويعد الثاني من محرم 1357 هـ الموافق للثالث من مارس سنة 1938 م عندما تحقق أول اكتشاف بترولي بالمملكة وتدفق الزيت من بئر الدمام السابعة، نقطة التحول في تاريخ الشركة، وانطلاقة لقيام صناعة الزيت في المملكـة وهذا يعد إنجازا اقتصاديا مهما قام به الملك عبدالعزيز بعد أن حقق توحيد معظم أجزاء الجزيرة العربية لبناء الصرح الاقتصادي لبلاده من أجل سعادة ورفاهية الوطن والمواطن لبناء اقتصاد متين للأجيال الحاضرة والمستقبلية وقد كانت البئر السابعة أول بئر منتجة للزيت في المملكة.
وفي 1 مايو 1939 م، واحتفالا بتحميل أول ناقلة زيت في رأس تنورة، أدار الملك عبد العزيز شخصيا الصمام الذي سمح بتدفق الزيت إلى ناقلة سوكال « دي . جي سكوفيلد Scofield .G .D» كان الاحتفال مناسبة عظيمة حضره كبار الأمراء وأفراد العائلة المالكة، بالإضافة إلى مسئولين حكوميين بارزين آخرين على رأسهم وزير المالية الشيخ عبد الله السليمان، وبذلك الحدث الهام والانجاز الكبير ربط الملك عبد العزيز شعبه المتطلع للرخاء بركب العالم الصناعي وتأكد أن البترول السعودي سيعود على السعوديين بالثروة والخير الوفير والرفاه والحياة الأفضل.
اليوم ونحن نحتفل بذكرى يومنا الوطني، من حقنا أن نفخر أيما افتخار ونعتز أيما اعتزاز بما قدمه لنا المؤسس والمصلح والموحد الملك عبد العزيز من إنجاز كبير، دولة كبرى قوية الأركان، يقودها نجله خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، متطلعين معه إلى غد واعد ومستقبل مشرق بإذن الله من التطور والتقدم والنماء بطاقة المجالات في ظل ثوابتنا الراسخة من العدل والمساواة في دولة دستورها القرآن والسنة لها دورها الرئيس في العالمين العربي والإسلامي والمجتمع الدولي.
المصادر:
- مجلة القافلة - مجلة عالم البترول والغاز - إمدادات العالم بالطاقة - قصة أرامكو السعودية - المجلد الأول
- د. عيد بن مسعود الجهني - البترول السعودي وأثره على الاقتصاد الوطني والدولي، صراع النفط العالمي ومستقبل نفط الخليج العربي.
* الملك عبدالعزيز يدشن أول إنتاج تجاري للبترول
* شركات التنقيب العاملة على استكشاف النفط
* لقاءات المسؤولين السعوديين وممثلي الدول للتوقيع على الاتفاقيات
* مواقع لآبار وحقول النفط بالمنطقة الشرقية للمملكة